وأما من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله ﷺ ليلة العقبة وهي الأولى وكانوا ستة نفر ثم العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلاً ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً فهؤلاء سباق الأنصار، وقيل : المراد بالسابقين الأوّلين من سبق إلى الهجرة والنصرة ويدل على هذا أنه تعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين لهم أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملاً فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما قد صاروا به مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة فوجب أن يكون المراد منه السابقين الأوّلين في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضاً فإنّ الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول الله ﷺ على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى الله تعالى عليهم ومدحهم ﴿والذين اتبعوهم﴾ أي : الفريقين إلى يوم القيامة ﴿بإحسان﴾ أي : في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقتهم.
وقال عطاء : هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار ويترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣٤
وقيل : بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأوّلين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه" والمدّ ربع الصاع والنصيف نصفه والمعنى لو أن أحداً عمل مهما قدر عليه من أعمال البرّ والإنفاق في سبيل الله ما بلغ هذا القدر الصغير من عمل الصحابة وإنفاقهم لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة، وعن عمران بن حصين أن النبيّ ﷺ قال :"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران : فلا أدري أذكر بعده قرنين أم ثلاثاً. والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضاً واختلفوا في مدّته من الزمان من عشر سنين إلى عشرين سنة، وقيل : من مائة إلى مائة وهذا هو المشهور وقيل : من مائة إلى مائة وعشرين سنة ثم جمعهم الله تعالى في الثواب فقال :﴿رضي الله عنهم﴾ فالسابقون مرتفع بالابتداء وخبره رضي الله عنهم أي : بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم ﴿ورضوا عنه﴾ بما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة ﴿وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار﴾ أي : هي كثيرة المياه فكل موضع أردته نبع منه ماء يجري منه نهر. وقرأ ابن كثير بزيادة من تحتها وبجرّ التاء بعد الحاء والباقون بغير من وفتح التاء، ثم نفى سبحانه الانقطاع بقوله تعالى :﴿خالدين فيها﴾ وأكد المراد من الخلود بقوله تعالى :﴿أبداً﴾ ثم استأنف مدح هذا الذي أعدّه لهم بقوله تعالى :﴿ذلك﴾ أي : الأمر العالي الرتبة ﴿الفوز العظيم﴾ ولما شرح تعالى أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون والمهاجرون والأنصار، ذكر أنّ جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق بقوله تعالى :
﴿وممن حولكم﴾ أي : أهل بلدتكم وهي المدينة ﴿من الأعراب منافقون﴾ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها وقوله تعالى :﴿ومن أهل المدينة﴾ عطف على خبر المبتدأ الذي
٧٣٥
هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت : ومن أهل المدينة قوم ﴿مردوا على النفاق﴾ على أن مردوا صفة موصوف محذوف كقول الشاعر :
*أنا ابن جلا وطلاع الثنايا*
أي : أنا ابن رجل جلا فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
وقال الزجاج : في الآية تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق أي : ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه وأصل المرود الملاسة ومنه صرّح ممرّد وغلام أمرد ﴿لا تعلمهم﴾ بأعيانهم أي : يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله تعالى :﴿نحن نعلمهم﴾ أي : لا يعلمهم إلا الله تعالى ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين لا تشك معه في إيمانهم وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به فلهم فيه اليد الطولى واختلفوا في تفسير قوله تعالى :﴿سنعذبهم مرّتين﴾ فقال الكلبي والسدي : قام النبي ﷺ خطيباً يوم الجمعة فقال :"اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج من المسجد جماعة من المنافقين وفضحهم فهذا هو العذاب الأوّل والثاني عذاب القبر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣٤


الصفحة التالية
Icon