بنوا مسجداً ﴿ضراراً﴾ أي : مضارّة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ﴿وكفراً﴾ أي : وتقوية للنفاق، وقال ابن عباس : يريدون به ضراراً للمؤمنين وكفراً بالنبيّ ﷺ وما جاء به، وقال غيره : اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبيّ ﷺ والإسلام ﴿وتفريقاً بين المؤمنين﴾ لأنهم كانوا جميعاً يصلون بمسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدّي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة ﴿وإرصاداً﴾ أي : ترقباً ﴿لمن حارب الله ورسوله﴾ وهو أبو عامر والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة وكان قد ترهب في الجاهلية وتنصر ولبس المسوح فلما قدم النبيّ ﷺ المدينة عاداه لأنه زالت رياسته وقال للنبيّ ﷺ ما هذا الذي جئت به ؟
قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، فقال له أبو عامر : إنا عليها، فقال له النبيّ ﷺ "إنك لست عليها" فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منا طريداً وحيداً غريباً، فقال النبيّ ﷺ "آمين" وسماه الفاسقى فلما كان يوم أحد قال أبو عامر : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من القوّة والسلاح وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد، وقوله تعالى :﴿من قبل﴾ متعلق بحارب أي : حارب من قبل أن يبنى مسجد الضرار أو باتخذوا أي : اتخذوا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣٨
ولما وصف تعالى هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال تعالى :﴿وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى﴾ أي : وليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهي الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله ﷺ وذلك أنهم قالوا لرسول الله ﷺ إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المظلمة والليلة الشاتية ﴿وا يشهد إنهم لكاذبون﴾ في قولهم.
تنبيه : قوله تعالى :﴿والذين اتخذوا﴾ محله نصب على الاختصاص كقوله تعالى :﴿والمقيمين الصلاة﴾ (النساء، ١٦٢)
أو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي : وممن ذكرنا الذين.
ولما بنى المنافقون ذلك المسجد للأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله ﷺ إلى غزوة تبوك وقالوا : يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة المظلمة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا فيه بالبركة فقال ﷺ "إني على جناح سفر في حال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه" فلما قفل أي : رجع ﷺ من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد نزل قوله تعالى :
﴿لا تقم فيه أبداً﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه لا تصلّ فيه أبداً، وقال الحسن : همّ رسول الله ﷺ أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل : لا تقم فيه أبداً فدعا رسول الله ﷺ مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشياً فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه فخرجوا جميعاً سريعاً حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك : انظروني حتى أخرج لكم بنار من أهلي فدخل إلى أهله وأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فهدموه وأحرقوه وتفرّق عنه أهله
٧٣٩
وأمر رسول الله ﷺ أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيداً فريداً غريباً وقيل : كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى أو بمال غير طيب فهو ملحق بمسجد الضرار.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٣٨


الصفحة التالية
Icon