جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤٧
إنه ما به حركة إلى شيء والله لا يزال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا فقال بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله ﷺ في امرأتك لأذن لك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله ﷺ وما يدريني ما يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله ﷺ عن كلامنا فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينما أنا جالس على الحال الذي ذكره الله تعالى في قوله :﴿حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت﴾ أي : مع رحبها أي : سعتها فلا يجدون مكاناً يطمئنون إليه ﴿وضاقت عليهم أنفسهم﴾ أي : قلوبهم بالغم والوحشة أي : بتأخير توبتهم فلا يسعها سرور ولا أنس ﴿وظنوا﴾ أي : أيقنوا ﴿أن﴾ مخففة ﴿لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم﴾ أي : وفقهم للتوبة ﴿ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرحيم﴾ إذ سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع ينادي بأعلى صوته : يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجداً وعرفت أنه جاء فرج وأذن رسول الله ﷺ الناس بتوبة الله تعالى علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبيّ مبشرون ورجل رحل إلي فرساً وسعى ساع من أسلم فأوفى إلى الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ وكسوته إياهما والله ما أملك غيرهما يومئذٍ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله ﷺ فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنؤنني بالتوبة ويقولون : ليهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله ﷺ جالس حوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني رضي الله تعالى عنه والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب : فلما سلمت على رسول الله ﷺ قال وهو يبرق وجهه من السرور :"أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك" ثم تلا علينا الآية، وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
ولما حكم الله بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر ما يكون كالزاجر عن مثل فعل ما مضى وهو التخلف عن رسول الله ﷺ والجهاد بقوله تعالى :
﴿يأيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾ أي : بترك معاصيه ﴿وكونوا مع الصادقين﴾ أي : مع النبيّ ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين في الغزوات ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت وقيل : كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الباطلة الكاذبة وقيل مع بمعنى من أي : وكونوا من الصادقين.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٤٧
تنبيه : في الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته ويدلّ عليه أيضاً أشياء :
منها ما روي عن ابن مسعود أنه قال : عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البرّ والبرّ يقرب إلى الجنة وإنّ العبد ليصدق فيكتب عند الله تعالى صدّيقاً وإياكم والكذب فإنّ الكذب يقرّب إلى الفجور والفجور يقرّب إلى النار وإنّ الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ألا ترى أنه يقال : صدقت وبررت وكذبت وفجرت.
ومنها ما روي أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ ﷺ وقال : إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحبّ الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرّم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها فإن
٧٤٩
قنعت مني بترك واحدة منها فعلت فقال ﷺ "اترك الكذب" فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبيّ ﷺ عرضوا عليه الخمر فقال : إن شربت وسألني النبيّ ﷺ وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام عليّ الحدّ فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا في السرقة فعاد إلى النبيّ ﷺ وقال : ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدّت أبواب المعاصي عليّ وفات الكل.
ومنها ما قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس ﴿فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين﴾ (ص، ٨٢، ٨٣)
لأنّ إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادّعاء إغواء الكل فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس لعنه الله فالمسلم أولى أن يستنكف منه.
ومنها قول ابن مسعود : الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم أخاه ثم لا ينجز له اقرأوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين.


الصفحة التالية
Icon