﴿قالوا ادع لنا ربك يبيّن لها ما هي﴾ أي : ما سنها وكان من حقه أن يقولوا أيّ بقرة هي أو كيف هي لأن لفظ ما يسأل به عن الجنس غالباً لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا مثله ﴿قال﴾ موسى ﴿إنه﴾ أي ربي ﴿يقول إنها بقرة لا فارض﴾ أي : مسنة، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي : قطعته وبلغت آخره ﴿ولا بكر﴾ أي : صغيرة ﴿عوان﴾ أي : نصف أي : وسط قال الشاعر :
*نواعم بين أبكار وعون
جمع عوان ﴿بين ذلك﴾ أي : بين ما ذكر من الفارض والبكر.
فإن قيل : بين يقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك ؟
أجيب : بأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر كما تقرّر وعود هذه الكنايات وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أنّ المراد بها معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب بالأمر ومن أنكر ذلك زعم أنّ المراد بها بقرة من جانب البقر غير مخصوصة ثم انقلبت مخصوصة بسؤالهم ويلزمه النسخ قبل الفعل فإن التخصيص إبطال التخيير الثابت بالنص والحق جواز تأخير البيان عن الوقت المذكور والنسخ قبل الفعل ويؤيد الرأي الثاني ظاهر اللفظ والمروي عنه عليه الصلاة والسلام : لو ذبحوا أيّ بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وتقريعهم بالتمادي وزجرهم عن المراجعة بقوله :﴿فافعلوا ما تؤمرون﴾ به من ذبحها.
﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال﴾ موسى ﴿إنه﴾ أي : ربي ﴿يقول إنها بقرة صفراء
٧٩
فاقع لونها﴾
أي : شديد الصفرة ولذلك تؤكد به الصفرة فيقال : أصفر فاقع كما يقال : أسود حالك، وعن الحسن : سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى :﴿جمالات صفر﴾ (المرسلات، ٣٣) قال البيضاويّ : ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنه من مقدّماته، قال البغويّ : والأوّل أصح لأنه لا يقال أسود فاقع إنما يقال : أصفر فاقع، وأسود حالك وأخضر ناصح ﴿تسرّ الناظرين﴾ إليها أي : يعجبهم حسنها وصفاء لونها، والسرور أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٩
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي﴾
أي : أسالمة أم عاملة ؟
وعلى هذا فليس تكراراً للسؤال الأوّل ﴿إنّ البقر﴾ أي : جنسه المنعوت كما ذكر ﴿تشابه﴾ أي : التبس واشتبه أمره ﴿علينا﴾ لكثرته فلم يهتدوا إلى المقصود.
تنبيه : لم يقل تشابهت علينا لأنّ المراد الجنس كما مرّ أو لتذكير لفظ البقر كقوله تعالى :﴿أعجاز نخل منقعر﴾ (القمر، ٢٠) ﴿وإنا إن شاء الله لمهتدون﴾ إلى وصفها وفي الحديث :"لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد". واحتجّ به أصحابنا على أنّ الحوادث بإرادة الله تعالى وأنّ الأمر قد ينفك عن الإرادة وإلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى. والمعتزلة والكرامية على حدوث الإرادة لأنها وقعت شرطاً والشرط أمر يحدث في المستقبل، وأجيب : بأنّ تعليق الاهتداء بالمشيئة التي هي الإرادة باعتبار تعلق المشيئة بالاهتداء وهذا التعلق هو الحادث ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث به تعالى لأن التعلق أمر اعتباري.
﴿قال﴾ موسى ﴿إنه﴾ أي : ربي ﴿يقول إنها بقرة لا ذلول﴾ أي : غير مذللة بالعمل ﴿تثير الأرض﴾ أي : تقلبها للزراعة، والجملة صفة ذلول داخلة في النفي ﴿ولا تسقي الحرث﴾ أي : الأرض المهيأة للزراعة، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قال : لا ذلول مثيرة وساقية ﴿مسلمة﴾ من العيوب وإثارة العمل ﴿لا شية﴾ أي : لا لون ﴿فيها﴾ سوى لون جميع جلدها، قال مجاهد : لا بياض فيها ولا سواد ﴿قالوا الآن جئت﴾ أي نطقت ﴿بالحق﴾ أي : بالبيان التامّ الشافي الذي لا إشكال فيه فطلبوها فوجدوها عند الفتى البارّ بأمّه فاشتروها بملء مسكها أي : جلدها ذهباً كما قال له الملك، وقوله تعالى :﴿فذبحوها﴾ فيه اختصار، والتقدير فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها ﴿وما كادوا﴾ أي : ما قاربوا ﴿يفعلون﴾ لتطويلهم وكثرة مراجعتهم، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها ولا ينافي قوله :﴿وما كادوا يفعلون﴾ قوله :﴿فذبحوها﴾ لاختلاف وقتيهما إذ المعنى ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم وانقطعت تعللاتهم ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٧٩
٨٠
﴿وإذ قتلتم نفساً﴾ خطاب للجمع لوجود القتل فيهم ﴿فادّارأتم﴾ فيه إدغام التاء في الأصل في الدال أي تخاصمتم وتدافعتم ﴿فيها﴾ أي : في شأنها، إذ المتخاصمان يدفع بعضهم بعضاً، أو تدافعتم بأن طرح كل قتلها عن نفسه إلى صاحبه ﴿وا مخرج﴾ أي : مظهر ﴿ما كنتم تكتمون﴾ فإن القاتل كان يكتم القتل، وقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon