فإن قيل : لم وصف الأيام مع أنها جمع بالمفرد ؟
أجيب : بأنها في معنى الجماعة فتكون مفرداً تقديراً ولأنّ جمع القلة ـ كما قاله الرضي ـ في حكم المفرد فيوصف بالمفرد كما هنا يوصف المفرد به كما في قوله تعالى :﴿نطفة أمشاج﴾ (الإنسان، ٢٠) وقيل : الأمشاج مفرد وعلى هذا فلا إشكال ثم كذبهم الله تعالى بقوله :﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿أتخذتم﴾ حذف منه همزة الوصل استغناء بهمزة الاستفهام. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام ﴿عند الله عهداً﴾ أي : ميثاقاً منه بذلك، وقوله تعالى :﴿فلن يخلف الله عهده﴾ جواب شرط مقدر أي : إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده وفيه دليل على أن الخلف في خبر الله تعالى محال ﴿أم تقولون على الله ما لا تعلمون﴾ أم إما منقطعة بمعنى بل أتقولون على التقرير والتقريع، وإمّا معادلة بهمزة الاستفهام بمعنى أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير للعلم بوقوع أحدهما، وقوله تعالى :
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٣
بلى﴾ إثبات لما نفوه من مساس النار لهم فإن بلى وبل حرفا استدراك ومعناهما نفي الخبر الماضي وإثبات الخبر المستقبل أي : بل تمسكم وتخلدون فيها ﴿من كسب سيئة﴾ أي : قبيحة ﴿وأحاطت به خطيئته﴾ وقرأ نافع وحده خطيئاته بالجمع أي : استولت عليه وشملت جميع أحواله حتى صار كالمحتاط بها لا يخلو عنها شيء من جوانبه وهذا إنما يصح في شأن الكافر لأنّ غيره وإن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه لم تحط الخطيئة به ولذلك فسرها السلف بالكفر، وقيل : السيئة الكبيرة، والإحاطة أن يصرّ عليها لأنّ من أذنب ذنباً ولم يقلع عنه استجرّه إلى معاودة مثله والانهماك فيه وارتكاب ما هو أكبر منه حتى تستولي عليه الذنوب وتأخذ بمجامع قلبه فيصير بطبعه مائلاً إلى المعاصي مستحسناً إياها معتقداً أن لا لذة سواها مبغضاً لمن يمنعه عنها مكذباً لمن ينصحه فيها كما قال تعالى :﴿ثم كان عاقبة الذين أساءوا السواى أن كذبوا بآيات الله﴾ (الروم، ١٠) الآية، والفرق بين السيئة والخطيئة أنّ السيئة قد تقال فيما يقصد بالذات والخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ، والكسب استجلاب النفع
٨٤
وتعليقه بالسيئة على التهكم كقوله تعالى :﴿فبشره بعذا أليم﴾ (لقمان، ٧) (يس، ١١) (الجاثية، ٨) ﴿فأولئك أصحاب النار﴾ أي : ملازموها في الآخرة كما أنهم ملازمو أسبابها في الدنيا ﴿هم فيها خالدون﴾ أي : دائمون روعي فيه معنى من والآية كما ترى لا حجة فيها على خلود صاحب الكبيرة لأنها في الكافر كما مرّ.
﴿والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون﴾ جرت عادته سبحانه وتعالى على أن يشفع وعده بوعيده لترجي رحمته ويخشى عذابه.
تنبيه : عطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٣
﴿و﴾ اذكر ﴿إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل﴾ في التوراة وقلنا لهم :﴿لا تعبدون إلا الله﴾ هذا إخبار في معنى النهي كقوله تعالى :﴿ولا يضارّ كاتب ولا شهيد﴾ (البقرة، ٢٨٢) وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أنّ المنهي سارع إلى الانتهاء فهو مخبر عنه، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب. ﴿وبالوالدين إحساناً﴾ أي : برّاً بهما وعطفاً عليهما ونزولاً عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله تعالى. قال البيضاويّ : وهذا متعلق بمضمر تقديره : وتحسنون أو أحسنوا، انتهى. ويلزمه أنّ إحساناً في الآية منصوب على المصدر المؤكد لعامله المحذوف مع أن حذف عامل المؤكد ممنوع أو نادر وقوله تعالى :﴿وذي القربى﴾ أي : القرابة ﴿واليتامى والمساكين﴾ عطف على الوالدين، ويتامى جمع يتيم وهو الطفل الذي لا أب له كنديم وندامى وهو قليل، ومسكين مفعيل من السكون كأنّ الفقر أسكنه ﴿وقولوا للناس حسناً﴾ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد ﷺ والرفق بهم، وقيل : هو اللين في القول والمعاشرة بحسن الخلق. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين، والباقون بضم الحاء وسكون السين مصدر وصف به مبالغة ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾، قال البيضاوي : يريد ـ أي : الله ـ بهما ما فرض عليهم في ملتهم ﴿ثم توليتم﴾ في هذا التفات عن الغيبة، قال البيضاوي : ولعل الخطاب مع الموجودين منهم في عهد رسول الله ﷺ ومن قبلهم على التغليب أي : أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه ﴿إلا قليلاً منكم﴾ أي : وهو من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن أسلم منهم ﴿وأنتم﴾ قوم ﴿معرضون﴾ أي : عادتكم الإعراض عن المواثيق والتولية كإعراض آبائكم.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٥