و} اذكروا ﴿إذ أخذنا ميثاقكم﴾ وقلنا ﴿لا تسفكون دماءكم﴾ أي : تريقونها بقتل بعضكم بعضاً ﴿ولا تخرجون أنفسكم من دياركم﴾ أي : لا يخرج بعضكم بعضاً من داره وإنما جعل غير الرجل نفسه لاتصاله به نسباً أو ديناً، وقيل : لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم فإنه الجلاء الحقيقيّ ﴿ثم أقررتم﴾ بهذا العهد أنه حق وقبلتم ﴿وأنتم تشهدون﴾ على أنفسكم، هذا توكيد كقولك أقر فلان شاهداً على نفسه، وقيل : أنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازاً.
﴿ثم أنتم﴾ يا ﴿هؤلاء تقتلون أنفسكم﴾ فيه استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق والإقرار والشهادة عليه أي : ثم بعد ذلك يقتل بعضكم بعضاً ﴿وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون﴾ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الطاء، والباقون بتشديدها، أي : تتعاونون ﴿عليهم بالإثم﴾
٨٥
أي : المعصية ﴿والعدوان﴾ أي : الظلم ﴿وإن يأتوكم أسارى﴾ قرأ حمزة بفتح الهمزة وسكون السين ولا ألف بعد السين، والباقون بضمّ الهمزة وفتح السين وألف بعدها ﴿تفادوهم﴾ قرأ عاصم والكسائيّ بضمّ التاء وفتح الفاء وألف بعدها، والباقون بفتح التاء وسكون الفاء ولا ألف بعدها، أي : تنقذوهم من الأسر بالمال أو غيره، وقوله تعالى :﴿وهو﴾ أي : الشأن ﴿محرّم عليكم إخراجهم﴾ متعلق بقوله تعالى :﴿وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم﴾ وما بينهما اعتراض، ومعنى الآية قال السدي : إنّ الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه في بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، وكانت قريظة حالفوا الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ويخرب ديارهم ويخرجهم فإذا أسروا فدوهم وكانوا إذا سئلوا : لم تقاتلونهم ؟
وتفدونهم قالوا : أمرنا بالفداء، فيقال : فلم تقاتلونهم ؟
فيقولون : حياء أن يستذل حلفاؤنا فعيرهم الله تعالى بقوله :﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب﴾ وهو الفداء ﴿وتكفرون ببعض﴾ وهو ترك القتل والإخراج والمظاهرة ﴿فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي﴾ أي : هوان وعذاب ﴿في الحياة الدنيا﴾ فكان خزي قريظة القتل والسبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي عن منازلهم إلى أذرعات وأريحاء من الشام ﴿ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب﴾ أي : عذاب جهنم وإنما ردّ من فعل منهم ذلك إلى أشدّ العذاب لأنّ عصيانه أشدّ ﴿وما الله بغافل عما تعملون﴾ قرأ نافع وابن كثير وشعبة بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٨٥
﴿أولئك الذين اشتروا﴾ أي : استبدلوا ﴿الحياة الدنيا بالآخرة﴾ بأن آثروها عليها ﴿فلا يخفف عنهم العذاب﴾ في الدنيا بنقصان الجزية والتعذيب في الآخرة ﴿ولا هم ينصرون﴾ أي : بدفعها عنهم ﴿ولقد آتينا﴾ أي : أعطينا ﴿موسى الكتاب﴾ أي : التوراة جملة واحدة ﴿وقفينا من بعده بالرسل﴾ أي : أتبعناهم رسولاً في إثر رسول كقوله تعالى :﴿ثم أرسلنا رسلنا تترى﴾ (المؤمنون، ٤٤) يقال : قفاه إذا أتبعه إياه ﴿وآتينا عيسى بن مريم البينات﴾ أي : المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات أو الإنجيل. وعيسى بالعبرانية أيشوع، ومريم بمعنى الخادم ﴿وأيدناه﴾ أي : قويناه ﴿بروح القدس﴾ قرأ ابن كثير بإسكان الدال حيث جاء، والباقون بضمها، وهذا من إضافة الموصوف إلى الصفة أي : الروح المقدسة وهو جبريل وصف به لطهارته وتأييده به أن أمر أن يسير معه حيث سار حتى يصعد به إلى السماء،
٨٦
وقيل : روح عيسى عليه الصلاة والسلام ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان أو لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث أي : الحيض، وقيل : اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى.
ولما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام قالوا : يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت، فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً فقال الله تعالى :﴿أفكلما جاءكم﴾ يا معشر اليهود ﴿رسول بما لا تهوى﴾ أي : تحب ﴿أنفسكم﴾ من الحق، وقوله تعالى :﴿استكبرتم﴾ أي : تكبرتم عن اتباعه، جواب كلما وهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ ﴿ففريقاً﴾ أي : طائفة ﴿كذبتم﴾ كموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والفاء لسببية الاستكبار للتكذيب أو التفصيل ﴿وفريقاً تقتلون﴾ كزكريا ويحيى عليهما السلام.
فإن قيل : هلا قال : وفريقاً قتلتم ؟
أجيب : بأنه إنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها في النفوس فإنّ الأمر فظيع ومراعاة للفواصل. قال الزمخشري : أو أن يراد وفريقاً تقتلونهم بعد أي : الآن، لأنكم درتم حول قتل محمد لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، وقال ﷺ عند موته :"ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري".