فإن قيل : لم يقولوه لأنهم علموا أنهم لا يصدقون أجيب : بأنه كم حكي عنهم من أشياء قاولوا بها المسلمين من الافتراء على الله وتحريف كتابه وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه ولا محمل له إلا الكذب الصرف ولم يبالوا فكيف يمنعون من أن يقولوا إنّ التمني من أفعال القلوب وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين في قولهم وأخبارهم عن ضمائرهم وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كذباً لأنه أمر خفي لا سبيل إلى الاطلاع عليه ﴿وا عليم بالظالمين﴾ أي : الكافرين فيجازيهم في ذلك فيه تهديد لهم وتنبيه على أنهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم ونفيه عمن هو لهم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٠
ولتجدنهم﴾ اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره : والله لتجدنهم يا محمد أي : اليهود ﴿أحرص الناس على حياة﴾ هو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى مفعولين ومفعولاه هم أحرص.
فإن قيل : لم قال على حياة بالتنكير ؟
أجيب : بأنه أريد حياة مخصوصة هي فرد من أفرادها وهي الحياة المتطاولة ﴿و﴾ أحرص ﴿من الذين أشركوا﴾ أي : المنكرين البعث عليها لعلمهم بأنّ مصيرهم النار دون المشركين لإنكارهم له.
فإن قيل : ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس ؟
أجيب : ببلى، ولكنهم أفردوا بالذكر ؛ لأنّ حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم ؛ لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ ﴿يودّ﴾ يتمنى ﴿أحدهم لو يعمر ألف سنة﴾ لو مصدرية بمعنى أن وهي بصلتها في تأويل مصدر مفعول، يودّ يقول الله تعالى : اليهود أحرص الناس على الحياة من المجوس الذين يقولون ذلك ؛ لأنّ تحية المجوس فيما بينهم عش ألف سنة ﴿وما هو﴾ أي : أحدهم ﴿بمزحزحه﴾ أي : مبعده ﴿من العذاب﴾ أي : النار وقوله تعالى :﴿أن يعمر﴾ فاعل مزحزحه أي : تعميره ﴿وا بصير بما يعملون﴾ فيجازيهم به.
"وسأل عبد الله بن صوريا رسول الله ﷺ عمن ينزل عليه ؟
فقال : جبريل فقال : ذاك عدوّنا
٩٠
عادانا مراراً وأشدّها أنه لما نزل على نبينا أخبرنا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر وأخبرنا بالحين الذي يجيء فيه فلما كان وقته بعثنا رجلاً من بني إسرائيل في طلبه ليقتله فانطلق حتى لقيه ببابل غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فيم تقتلونه وكبر بختنصر وقوي فنزل.
﴿قل﴾ لهم ﴿من كان عدواً لجبريل﴾.
روي أنه كان لعمر رضي الله تعالى عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممرّه على مدارس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال : والله ما أحبكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ﷺ وأرى آثاره في كتابكم، ثم سألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدوّ لنا يطلع محمداً على أسرارنا وإنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلام أي : السلامة، فقال عمر : وما منزلتهما من الله ؟
قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة فقال : لئن كان كما تقولون فليسا بعدوّين أي : لقرب منزلتهما عند الله ولأنتم أكفر من الحمير أي : لأنّ الكفر نتيجة الجهل والبلادة والحمار مَثل فيهما، ومن كان عدوّ أحدهما فهو عدّو الله تعالى ثم رجع فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية وقال عليه الصلاة والسلام :"لقد وافقك ربك يا عمر" قال عمر : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر.
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٠