وقال مقاتل : قالت اليهود إنّ جبريل عدوّنا ؛ لأنه أمر أن يجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا ومعنى جبريل عبد الله، فجبر هو الله وإيل هو العبد، وقرأ حمزة والكسائيّ بفتح الجيم والراء وهمزة بعد الراء مكسورة ممدودة أي : بعدها ياء لفظية وقرأ شعبة كذلك إلا أنه حذف الياء بعد الهمزة وكسر الراء والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز بعد الراء إلا أن ابن كثير فتح الجيم ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ﴿فإنه﴾ أي : جبريل ﴿نزله﴾ أي : القرآن ونحو هذا الإضمار أعني إضمار ما لا يسبق ذكره فيه. فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدلّ على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته ﴿على قلبك﴾ يا محمد وقوله تعالى :﴿بإذن الله﴾ أي : بأمره حال من فاعل نزل ﴿مصدقاً﴾ أي : موافقاً ﴿لما بين يديه﴾ لما قبله من الكتب ﴿وهدى﴾ من الضلالة ﴿وبشرى﴾ بالجنة ﴿للمؤمنين﴾ هذه أحوال من مفعول نزل وجواب الشرط فإنه نزله والمعنى من عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياك لنزوله عليك بالوحي ؛ لأنه نزل كتاباً مصدّقاً للكتب المتقدّمة فحذف الجواب وأقيم علته مقامه، أو من عاداه فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وقيل : الجواب محذوف مثل فليمت غيظاً أو فهو عدوّ لي وأنا عدوّ له كما قال تعالى :
﴿من كان عدوّاً وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوّ للكافرين﴾ والمراد بمعاداة الله مخالفته عناداً أو معاداة المقرّبين من عباده وصدر الكلام بذكره تعالى تفخيماً لشأنهم كقوله تعالى :﴿وا ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة، ٦٢).
فإن قيل : لم أفرد الملكين بالذكر مع دخولهما في الملائكة ؟
أجيب : بأنّ ذلك لفضلهما، فكأنهما من جنس آخر وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات وبأن المحاجة كانت فيهما والواو فيها بمعنى أو يعني من كان عدوّاً لأحد هؤلاء ؛ لأنّ الكافر بالواحد كافر بالكل، وقدم جبريل لشرفه، وقدم الملائكة على الرسل كما قدم الله على الجميع ؛ لأنّ عداوة
٩١
الرسل بسبب نزول الكتب ونزولها بتنزيل الملائكة وتنزيلهم لها بأمر الله فذكر الله ومن بعده على هذا الترتيب، قرأ أبو عمرو وحفص ميكال بغير همز ولا ياء بين الألف واللام وقرأ نافع بهمزة بعد الألف ولا ياء بعد الهمزة والباقون بهمزة بعد الألف وياء وهم على مراتبهم في المدّ. ونزل في ابن صوريا لما "قال للنبيّ ﷺ ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية أي زائدة فنتبعك".
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٠
ولقد أنزلنا إليك﴾ يا محمد ﴿آيات بينات﴾ واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام ﴿وما يكفر بها إلا الفاسقون﴾ أي : المتمرّدون من الكفرة والفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على أعظميته كأنه متجاوز عن حدّه.
﴿أو كلما عاهدوا عهداً﴾ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا الله عهداً على الإيمان بالنبيّ أو إن خرج النبيّ أن لا يعاونوا عليه المشركين وقوله تعالى ﴿نبذه﴾ أي : طرحه ﴿فريق منهم﴾ أي : اليهود بنقضه جواب كلما وهو محل الاستفهام الانكاري وإنما قال فريق ؛ لأنّ بعضهم لم ينقض وقوله تعالى :﴿بل﴾ للانتقال ﴿أكثرهم لا يؤمنون﴾ ردّ لِما يتوهم أنّ الفريق هم الأقلون.
وقوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ٩٠
﴿ولما جاءهم رسول من عند الله﴾ هو محمد ﷺ ﴿مصدّق لما معهم﴾ من التوراة ﴿نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله﴾ أي : التوراة ؛ لأنّ كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدّقه ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات وقيل : كتاب الله هو القرآن نبذوه بعدما ألزمهم تلقيه بالقبول وقوله تعالى :﴿وراء ظهورهم﴾ أي : لم يعملوا بما فيها من الآيات بالرسل وغيره مًثل لإعراضهم عنه بالكلية بالاعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه ﴿كأنهم لا يعلمون﴾ ما فيها من أنه نبيّ حق أو فيه شك يعني أنّ علمهم بذلك رصين ولكنهم كابروا وعاندوا. وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه.
وقوله تعالى :﴿واتبعوا﴾ عطف على نبذ ﴿ما تتلو﴾ أي : ما تلت ﴿الشياطين﴾ والعرب تضع المستقبل موضع الماضي والماضي موضع المستقبل، وقيل : ما كانت تتلو أي تقرأ ﴿على﴾ عهد ﴿ملك سليمان﴾ من السحر وكانت دفنته تحت كرسيه لما نزع ملكه فلم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملَككم سليمان بهذا فتعلموه، فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا من علم سليمان عليه الصلاة والسلام، وأمّا سفلاؤهم
٩٢
فقالوا : هذا علم سليمان وأقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وبقيت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتى بعث الله محمداً ﷺ وأنزل الله عليه براءة سليمان هذا قول الكلبيّ.