قال ابن عباس : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه وبعث جبريل حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ثم إنّ الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسمعيل وإسحق ببناء بيت يذكر فيه اسمه تعالى فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه، قال ابن عباس فبعث الله له سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت به مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص وقيل : أرسل الله تعالى جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى :﴿وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت﴾ (الحج، ٢٦).
فبنى إبراهيم وإسمعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسمعيل يناوله الحجارة ولما كان له مدخل في البناء عطف عليه وقيل : كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب. قال ابن عباس : بني البيت من خمسة أجبل : طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان وهو جبل بالشأم، والجوديّ وهو جبل بالجزيرة، وبنيا قواعده من جبل حراء وهو جبل بمكة، فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسمعيل : ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا فمضى إسمعيل يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه. وقيل : أوّل من بنى الكعبة آدم ثم اندرس من الطوفان ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه وقيل : بنته الملائكة قبل آدم وقد بني إلى يومنا هذا سبع مرّات : المرّة الأولى هل كان الباني الملائكة أو آدم ؟
ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قريش وقد حضر النبيّ ﷺ هذا البناء وكان ينقل معهم الحجارة ثم ابن الزبير في خلافته ثم الحجاج الثقفي وهو الموجود اليوم.
﴿
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٤
ربنا واجعلنا مسلمين﴾ أي : منقادين مخلصين خاضعين ﴿لك﴾ والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ﴿و﴾ اجعل ﴿من ذريتنا﴾ أي : أولادنا ﴿أمّة﴾ أي : جماعة ﴿مسلمة﴾ خاضعة منقادة ﴿لك﴾ ومن للتبعيض أي : واجعل بعض ذرّيتنا وإنما خصا الذرّية بالدعاء ؛ لأنهم أحق بالشفقة ؛ ولأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع.
ألا ترى أنّ المتقدّمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم وخصا بعضهم لتقدّم قوله تعالى :﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾ (البقرة، ١٢٤) فعلما أنّ في ذرّيتهما ظلمة وأنّ الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاق الناس كلهم على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل : لولا الحمقى الذين صرفوا أنفسهم إلى الدنيا، لخربت الدنيا ويصح أن تكون من للتبيين كقوله تعالى :﴿وعد الله الذين آمنوا منكم﴾ (النور، ٥٥) قدم على المبين وفصل به بين العاطف وهو واو ومن والمعطوف وهو أمة كما في
١٠٦
قوله تعالى :﴿خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ﴾ (الطلاق، ١٢) وقيل : أراد بالأمّة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم
﴿وأرنا﴾ علّمنا ﴿مناسكنا﴾ شرائع ديننا وإعلام حجنا، والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن المعتاد كالصيد والتمتع باللباس وغيره، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما وبعث لهما جبريل عليه السلام فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال : عرفت يا إبراهيم قال : نعم فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات، وقرأ ابن كثير والسوسي أرنا بسكون الراء وقرأ الدوري عن أبي عمرو باختلاس حركة والراء والباقون بالحركة الكاملة ﴿وتب علينا﴾ سأله التوبة مع عصمتهما هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذرّيتهما أو لما سلف منهما سهواً قبل النبوّة ﴿إنك أنت التوّاب﴾ لمن تاب ﴿الرحيم﴾ به.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٠٤
﴿ربنا وابعث فيهم﴾ أي : الأمة المسلمة من ذرّية إبراهيم وإسمعيل ﴿رسولاً منهم﴾ أي : من أنفسهم.
روي أنه قيل له : قد استجيب لك وهو في آخر الزمان، فبعث الله فيهم محمداً ﷺ إذ لم يبعث من ذرّيتهما غير محمد ﷺ إذ لم يأت نبيّ من ولد إسمعيل إلا النبيّ ﷺ والكل من ولد إسحق، فهو المجاب به دعوتهما كما قال عليه الصلاة والسلام :"إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأوّل أمري أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أميّ التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت له قصور الشام" وأراد بدعوة إبراهيم هذا.