فإن قيل : على الأوّل كيف يكون العلم بمعنى المعرفة والله تعالى لا يوصف بها ؛ لأنها تقتضي سبق جهل والله منزه عن ذلك أجيب : بأنّ ذلك لشيوعها فيما تقتضي أن يكون مسبوقاً بالعدم وليس العلم الذي بمعنى المعرفة، كذلك إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين، بل قال الوليّ العراقي : قد وقع إطلاق المعرفة على الله تعالى في كلام النبيّ ﷺ وأقوال الصحابة أو كلام أهل اللغة وقوله تعالى :﴿وإن﴾ هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : وإنها ﴿كانت﴾ أي : التولية ﴿لكبيرة﴾ شاقة على الناس ﴿إلا على الذين هدى الله﴾ منهم وهم الثابتون على الإيمان ﴿وما كان الله ليضيع أيمانكم﴾ أي : ثباتكم على الإيمان، وإنكم لم تزلزلوا ولم ترتابوا بل شكر سعيكم وأعدّ لكم الثواب العظيم أو صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليه ؛ لأنّ سبب نزولها "أنّ حييّ بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، إن كانت هدى فقد تحوّلتم عنها، وإن كانت ضلالة فقد دنتم الله بها، ومن مات منكم عليها فقد مات على الضلالة، فقال المسلمون : إنّ الهدى ما أمر الله تعالى به، والضلالة ما نهى الله تعالى عنه قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا، وكان قد مات قبل أن تحوّل القبلة من المسلمين أسعد بن زرارة من بني النجار، والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبيّ ﷺ وقالوا : يا رسول الله لقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله تعالى هذه ﴿إن الله بالناس لرؤف رحيم﴾ فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاتهم".
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٢
فإن قيل : لم قدم الرؤوف على الرحيم مع أنه أبلغ ؟
أجيب : بأنه قدم محافظة على الفواصل، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي لرؤوف بقصر الهمزة، والباقون بمدّها ولورش في الهمزة المدّ والتوسط والقصر على أصله.
﴿قد﴾ للتحقيق ﴿نرى تقلب﴾ أي : تردّد ﴿وجهك في السماء﴾ أي : في جهتها متطلعاً إلى الوحي ومتشوّقاً إلى الأمر باستقبال الكعبة، وهذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدّمة في المعنى، فإنها رأس القصة، وأمر القبلة أوّل ما نسخ من أمور الشرع وذلك أنّ رسول الله ﷺ وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم مع ما يجدونه من نعته في التوراة، وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة، لأنها كانت قبلة إبراهيم أبيه صلى الله عليه وسلم
وقال مجاهد : كان يحب ذلك من أجل أنّ اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا، فقال لجبريل عليه السلام : وددت لو حوّلني الله تعالى إلى الكعبة، فإنها قبلة أبي إبراهيم، فقال جبريل : إنما أنا عبد ملك وأنت كريم على ربك، فسل أنت ربك فإنك عند الله بمكان، فعرج جبريل وجعل رسول الله ﷺ يديم النظر إلى السماء رجاء أن ينزل جبريل بما يحب من أمر القبلة، وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل، فنزل قوله تعالى :﴿فلنولينك﴾ أي : فلنحوّلنك ﴿قبلة﴾ أي : إلى قبلة ﴿ترضاها﴾ أي : تحبها وتهواها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته ﴿فول﴾ أي : اصرف ﴿وجهك شطر﴾ أي : نحو ﴿المسجد الحرام﴾ أي : الكعبة أي : استقبل عينها بصدرك في الصلاة وإن كنت بعيداً عنها. وقول البيضاوي : والبعيد يكفيه
١١٥
مراعاة الجهة، فإنّ في استقبال عينها حرجاً عليه وجه ضعيف، والحرام المحرم فيه القتال وممنوع من الظلمة أن يتعرّضوه.
وقوله تعالى :﴿وحيث ما كنتم﴾ من بحر أو برّ، شرق أو غرب خطاب للأمة ﴿فولوا وجوهكم﴾ في الصلاة ﴿شطره﴾ وكان تحويل القبلة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين. وقول البيضاوي : وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسمي المسجد مسجد القبلتين فيه تحريف، فإن ظاهره أنه ﷺ كان إماماً في قصة بني سلمة وأنه تحول في الصلاة وليس كذلك، فقد روى البخاريّ عن ابن عمر أنه قال :"بينما الناس يصلون في صلاة الصبح إذ أتاهم آت أي : من بني سلمة فقال : إنّ النبيّ ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشأم فاستداروا إلى الكعبة".
جزء : ١ رقم الصفحة : ١١٢