فائدة أخرى : كل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولام اتفق القرّاء على توحيدها، وما فيها ألف ولام كما هنا، اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا الحرف الأوّل في سورة الروم الرياح مبشرات اتفقوا على جمعها، والريح تذكر وتؤنث ﴿والسحاب﴾ أي : الغيم ﴿المسخر﴾ أي : المذلل بأمر الله يسير حيث شاء الله ﴿بين السماء والأرض﴾ بلا علاقة لا ينزل ولا يرتفع مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله. وقيل : تسخير السحاب تقليبه في الجوّ بمشيئة الله واشتقاقه من السحب ؛ لأنّ بعضه يجر بعضاً ﴿لآيات﴾ أي : دلالات واضحات على وحدانية الله تعالى ﴿لقوم يعقلون﴾ أي : ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون ؛ لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وقول البيضاويّ : وعن النبيّ ﷺ "ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها". أي : لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها. قال الوليّ العراقيّ : لم أقف عليه. وقال السيوطي : لم يرد في هذه الآية ولا بهذا اللفظ، ثم قال عن عائشة أن النبيّ ﷺ قال :"أنزل عليّ الليلة ﴿إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾" ثم قال :"ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها". قيل : للأوزاعيّ ما غاية التفكر فيهنّ ؟
قال : يقرأهنّ وهو يعقلهنّ انتهى ولا ينافي هذا أنه ورد أيضاً في هذه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ قال البيضاويّ : وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله وحث على البحث والنظر فيه انتهى.
ولا ينافي هذا قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ؛ لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بعلم الكلام ؛ لأنه محمول على التوغل فيه، فيصير فلسفياً.
﴿ومن الناس﴾ وهم المشركون ﴿من يتخذ من دون الله﴾ أي : غيره ﴿أنداداً﴾ أي : أصناماً يعبدونها ﴿يحبونهم﴾ بالتعظيم والخضوع ﴿كحبّ الله﴾ أي : كحبهم له كما قال الزجاج : يحبون الأصنام كما يحبون الله ؛ لأنهم أشركوها مع الله، فسووا بين الله وبين أصنامهم في المحبة أو يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله ﴿والذين آمنوا أشدّ حباً ﴾ أي : أثبت وأدوم على حبه ؛ لأنهم لا
١٢٦
يختارون على الله ما سواه، والمشركون محبتهم لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، ولذلك كانوا إذا اتخذوا صنماً أحسن منه طرحوا الأوّل واختاروا الثاني، وربما يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عند المجاعة، ويُعرضون عن معبودهم في وقت البلاء، ويقبلون على الله كما أخبر الله تعالى عنهم فقال :﴿فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين﴾ (العنكبوت، ٦٥) والمؤمن لا يعرض عن الله تعالى في السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٥
وقيل : إنما قال الله تعالى :﴿والذين آمنوا أشدّ حباً ﴾ لأنّ الله أحبهم أولاً ثم أحبوه، ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتمّ قال الله تعالى :﴿يحبهم ويحبونه﴾ (المائدة، ٥٤) فمحبة العبد لله طاعته والإعتناء بتحصيل مراضيه، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي ﴿ولو يرى الذين ظلموا﴾ أي : باتخاذ الأنداد ﴿إذ يرون﴾ أي : يبصرون ﴿العذاب﴾ يوم القيامة وإذ بمعنى إذا أو أجري المستقبل وهو يرى مجرى الماضي لأنّ إذ موضوعة للماضي ؛ والمعنى هنا على الاستقبال لتحققه كقوله تعالى :﴿ونادى أصحاب الجنة﴾ (الأعراف، ٤٤) ﴿أنّ﴾ أي : بأنّ ﴿القوّة﴾ أي : القدرة والغلبة ﴿﴾ وقوله تعالى :﴿جميعاً﴾ حال ﴿وأنّ الله شديد العذاب﴾ وجواب لو محذوف، والتقدير لو يعلمون أنّ القدرة لله جميعاً ؛ إذ عاينوا العذاب لندموا أشدّ الندم، والفاعل ضمير السامع أو الذين ظلموا، ويرى بمعنى يعلم، وأنّ وما بعدها سدّت مسدّ المفعولين.
وقرأ نافع وحده بالتاء على الخطاب أي : ولو ترى يا محمد ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وأمال السوسي الألف المنقلبة بعد الراء في الوصل بخلاف عنه، وغلظ ورش اللام بعد الظاء، وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء، والباقون بفتحها.
﴿إذ﴾ بدل من إذ قبله ﴿تبرأ الذين اتبعوا﴾ وهم الرؤساء ﴿من الذين اتبعوا﴾ وهم الأتباع أي : ينكر الرؤساء إضلال الأتباع يوم القيامة حين يجمع الله القادة والأتباع ﴿و﴾ قد ﴿رأوا العذاب﴾ أي : رائين له فالواو للحال، وقد مضمرة كما قدرتها وقيل : عطف على تبرأ، وقوله تعالى :﴿وتقطعت﴾ عطف على تبرأ، وقوله تعالى :﴿بهم﴾ بمعنى عنهم ﴿الأسباب﴾ أي : الوصل التي كانت بينهم في الدنيا من القرابات والصدقات وصارت مخالفتهم عداوة.


الصفحة التالية
Icon