﴿وقال الذين اتبعوا﴾ أي : الأتباع ﴿لو أنّ لنا كرّة﴾ أي : رجعة إلى الدنيا ﴿فنتبرأ منهم﴾ أي : الرؤساء ﴿كما تبرّأوا منا﴾ اليوم، ولو للتمني ولذلك أجيب بالفاء ﴿كذلك﴾ أي : مثل ذلك الإراء الفظيع ﴿يريهم الله أعمالهم﴾ أي : السيئة وقوله تعالى :﴿حسرات﴾ أن تنقلب ندمات ﴿عليهم﴾ ثالث مفاعيل يرى إن كان من رؤية القلب والافحال، وقوله تعالى :﴿وما هم بخارجين من النار﴾ أصله وما يخرجون ؛ لأنّ المناسب أن تعطف جملة فعلية على جملة فعلية، لكن عدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٥
١٢٧
﴿يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً﴾ فقال البيضاويّ : نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس أي : لا على وجه التورّع كما تفعله الصوفية، وما قاله قول مرجوح كما قاله شيخنا القاضي زكريا والمشهور أنها نزلت فيهم آية المائدة وهي ﴿يأيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم﴾ (المائدة، ٨٧) وأمّا هذه الآية، فإنها نزلت في الكفار الذين حرموا البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ومن ثم عبر هنا بيأيها الناس وثم بيأيها الذين آمنوا.
تنبيه : حلالاً مفعول كلوا أو حال وقوله تعالى :﴿طيباً﴾ إمّا صفة مؤكدة وإما طاهراً من كلّ شبهة وهو ما يستطيبه الشرع. قال "الكشاف" : ومن للتبعيض ؛ لأن كلّ ما في الأرض ليس بمأكول هذا إن جعلنا حلالاً حالاً، فإن جعلنا مفعولاً فمن للابتداء كما قاله السعد التفتازاني ؛ لأن من التبعيضية في موضع المفعول أي : كلوا بعض ما في الأرض ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ أي : طرقه كما قاله الزجاج أو المحقرات من الذنوب كما قاله أبو عبيدة فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. وقرأ ابن عامر وقتيل وحفص والكسائي بضمّ الطاء والباقون بالسكون ﴿إنه لكم عدوّ مبين﴾ أي : بيّن العداوة أو مظهر العداوة عند ذوي البصيرة، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، وقد أظهر عداوته بامتناعه من السجود لآدم، ثم بيّن سبحانه وتعالى عداوته بأنه لا يأمر بخير قط بقوله :
﴿إنما يأمركم بالسوء﴾ أي : القبيح شرعاً ﴿والفحشاء﴾ أي : ما تجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وعن ابن عباس أنّ السوء من الذنوب ما لا حدّ فيه، والفحشاء من المعاصي ما يجب به حدّ. وقال السُديّ : الفحشاء هي الزنا وقيل : البخل.
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٢٧
قال البيضاوي : واستعير الأمر لتزيينه ونعته لهم تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم انتهى.
قال شيخنا القاضي زكريا : ولا حاجة إلى صرف الأمر عن ظاهره ؛ لأنّ حقيقته طلب الفعل ولا ريب أنّ الشيطان يطلب السوء والفحشاء ممن يريد إغواءه ﴿و﴾ يأمركم أيضاً ﴿أن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ كتحليل المحرّمات وتحريم الطيبات واتخاذ الأنداد. وقوله تعالى :
﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله﴾ من التوحيد وتحليل الطيبات متصل بما قبله وهو نازل في مشركي العرب وكفار قريش والضمير في لهم عائد على الناس المذكورين في قوله تعالى :﴿ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً﴾ عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون وقيل : مستأنف والهاء والميم في لهم كناية عن غير مذكور.
روي عن ابن عباس أنه قال : دعا رسول الله ﷺ اليهود إلى الإسلام فقال رافع بن خارجة ومالك بن عوف : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿قالوا﴾ لا نتبعه ﴿بل نتبع
١٢٨
ما ألفينا﴾
أي : وجدنا وأدركنا أو علمنا، وألفى تتعدّى إلى مفعولين وهما قوله ﴿عليه آباءنا﴾ من عبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب، فإنهم كانوا خيراً وأعلم منا قال الله تعالى :﴿أولو كان﴾ أي : أيتبعونهم ولو كان ﴿آباؤهم لا يعقلون شيئاً﴾ أي : من أمر الدين لا شيئاً مطلقاً، فإنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، فلفظه عام ومعناه الخصوص ﴿ولا يهتدون﴾ أي : الحق والهمزة للإنكار والواو للحال أو العطف وجواب لو محذوف أي : لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم.
﴿ومثل﴾ أي : صفة ﴿الذين كفروا﴾ ومن يدعوهم إلى الهدى ﴿كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء﴾ أي : صوتاً ولا يفهم معناه والنعيق التصويت يقال : نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن قال الأخطل :
*فانعق بضأنك يا جرير فإنما ** منتك نفسك في الخلاء ضلالا*


الصفحة التالية
Icon