وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، ومدّ بعد النون من أنا قبل الهمزة المفتوحة نافع، والباقون بالقصر، ثم أنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا، وكان في المرّة الأولى أبطأ في تجهيزهم في طول المدّة ليتعرّف أخبارهم من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرّة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبّرها فلذلك أتت الفاء في قوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٣٦
﴿فلما جهزهم﴾، أي : اعجل جهازهم وأحسنه ﴿بجهازهم جعل﴾ بنفسه أو بمأذونه ﴿السقاية﴾، أي : المشربة التي كان يشرب بها ﴿في رحل أخيه﴾، أي : وعاء طعام أخيه بنيامين كما فعل ببضاعتهم في المرّة الأولى. قال ابن عباس : كانت من زبرجد. وقال ابن إسحاق : كانت من فضة وقيل : من ذهب. وقال عكرمة : كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، وجعلها يوسف عليه السلام مكيالاً لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها.
قال الرازي : هذا بعيد ؛ لأنّ الإناء الذي يشرب فيه الملك لا يصلح أن يجعل صاعاً، وقيل : كانت الدواب تسقى بها، قال : وهذا أيضاً بعيد ؛ لأنّ الآنية التي تسقى الدواب فيها لا تكون كذلك، وقال : والأصوب أن يقال : كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أمّا إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا، والسقاية والصواع واحد، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا وذهبوا منزلاً، وقيل : حتى خرجوا من العمارة ثم بعث خلفهم من استوقفهم وحبسهم ﴿ثم أذن﴾، أي : أعلن فيهم بالنداء ﴿مؤذن﴾ قائلاً برفع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه بما دل عليه إسقاط الأداة ﴿أيتها العير﴾، أي : القافلة، قال أبو الهيثم : كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير. قال : وقول من قال العير الإبل خاصة باطل، فقوله :﴿أيتها العير﴾، أي : أصحاب العير كقوله : يا خيل الله اركبي. قال الفراء : كانوا أصحاب إبل. وقال مجاهد : كانت العير حميراً.
١٣٩
وقرأ ورش بإبدال همزة مؤذن واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف فقط، والباقون بالقصر. ﴿إنكم لسارقون﴾ فقفوا حتى ننظر الذي فقد لنا، والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء من حرز مثله. فإن قيل : هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليه السلام أو ما كان بأمره ؟
فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف عليه السلام مع علو منصبه أن يبهت أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً ؟
وإن كان بغير أمره فهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة ؟
أجيب : بأجوبة :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٣٩
الأوّل : أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال لست أفارقك قال : لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق بك. قال : رضيت بذلك، وعلى هذا لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام ؛ لأنه قد رضي به فلا يكون ذلك ذنباً.
الثاني :﴿إنكم لسارقون﴾ يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة من الكذب.
الثالث : أنّ المنادي إنما ذكر النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا يخرج أن يكون كذباً.
الرابع : ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا هذا بأمر يوسف عليه السلام. قال الرازي : والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم ؛ لأنهم لما طلبوا السقاية فلم يجدوها، ولم يكن هناك أحد غيرهم غلب على ظنهم أنهم الذين أخذوها. ولما وصل إليهم الرسول قال لهم : ألم نحسن ضيافتكم ونكرم مثواكم ونفيكم كيلكم وفعلنا بكم ما لم نفعل بغيركم ؟
قالوا : بلى، وما ذاك ؟
قالوا : سقاية الملك فقدناها ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى :
﴿قالوا و﴾ الحال أنهم قد ﴿أقبلوا عليهم﴾، أي : على جماعة الملك المنادي وغيره ﴿ماذا﴾، أي : ما الذي ﴿تفقدون﴾ مما يمكننا أخذه والفقدان ضدّ الوجود ﴿قالوا نفقد﴾ وكان للسقاية اسمان فعبروا بقولهم ﴿صواع الملك﴾ والصواع هو المكيال وهو السقاية المتقدّمة سموه تارة كذا وتارة كذا، وإنما اتخذوا هذا الإناء مكيالاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. ﴿ولمن جاء به حمل بعير﴾، أي : من الطعام، والبعير يطلق لغة على الذكر خاصة وأطلقه بعضهم على الناقة أيضاً، وجعله نظير إنسان وهو ما جرى عليه الفقهاء في باب الوصية، والجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران ﴿وأنا به زعيم﴾ قال مجاهد : هذا الزعيم هو الذي أذن، والزعيم الكفيل، وهذه الآية تدل على أنّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله ﷺ في قوله :"الزعيم غارم".
وإذا ورد في شرعنا ما يقرّر شرع غيرنا، هل يكون شرعاً لنا ؟
في ذلك خلاف والراجح أنه ليس بشرع لنا. فإن قيل : كيف تصح هذه الكفالة مع أنّ السارق لا يستحق شيئاً ؟
أجيب : بأنهم لم يكونوا سراقاً في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع، فيكون ذلك جعالة أو أنّ مثل هذه الكفالة، كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان.