ارجعوا إلى أبيكم} دوني ﴿فقولوا﴾ له، أي : متلطفين في خطابكم ﴿يا أبانا﴾ وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها وقولوا ﴿إن ابنك سرق﴾ فإن قيل : كيف يحكمون عليه بأنه سرق من غير بينة وهو قد أجابهم بالجواب الشافي، فقال : الذي جعل الصاع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحالكم ؟
أجيب : بأنهم لما شاهدوا الصاع وقد أخرج من متاعه غلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال، ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم ﴿وما شهدنا﴾ عليه ﴿إلا بما علمنا﴾ ظاهراً من رؤيتنا الصاع يخرج من وعائه، وأما قوله : وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم، فالفرق ظاهر ؛ لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصاع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصاع في رحله، فلهذا السبب غلب على ظنهم أنه سرق، فشهدوا بناء على الظن ﴿وما كنا للغيب﴾، أي : ما غاب عنا حين أعطينا الموثق ﴿حافظين﴾، أي : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه سبيل، وحقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فلعل الصاع دس في رحله، ونحن لا نعلم ذلك، فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا.
﴿واسأل القرية﴾، أي : أهلها على حذف المضاف، وهو مجاز مشهور، وقيل : إنه مجاز لكنه من باب إطلاق المحل وإرادة الحال ﴿التي كنا فيها﴾ وهي مصر عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم، وقيل : هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر ﴿و﴾ اسأل ﴿العير﴾، أي : القافلة، وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه السلام ﴿التي أقبلنا فيها﴾ والسؤال طلب الأخبار بأداته من الهمزة، أو هل أو غيرهما، والقرية الأرض الجامعة لحدود فاصلة وأصلها من قريت الماء جمعته، والعير قافلة الحمير من العير بالفتح وهو الحمار هذا هو الأصل ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير، ولما كان ذلك بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم أكدوه بقولهم ﴿وإنا﴾، أي : والله إنا ﴿لصادقون﴾ في أقوالنا، ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال كبيرهم، فكأنه قيل : فما قال لهم ؟
فقيل :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤١
﴿قال﴾ لهم ﴿بل سوّلت﴾، أي : زينت تزييناً فيه غي ﴿لكم أنفسكم أمراً﴾، أي : حدّثتكم بأمر ففعلتموه، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته ﴿فصبر جميل﴾، أي : فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل صبري، أو أجمل، وقدم مثل ذلك في واقعة يوسف إلا أنه قال فيها :﴿والله المستعان على ما تصفون﴾ (يوسف، ١٨) وقال هنا ﴿عسى الله أن يأتيني بهم﴾، أي : بيوسف وشقيقه بنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر ﴿جميعاً﴾، أي : فلا يتخلف منهم أحد، وإنما قال يعقوب عليه السلام
١٤٥
هذه المقالة ؛ لأنه لما طال حزنه واشتدّ بلاؤه ومحنته علم أن الله تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله تعالى وتفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه السلام، وأن الأمر يرجع إلى سلامة واجتماع، ثم علل هذا بقوله :﴿إنه هو العليم﴾، أي : البليغ العلم بما خفي عنا من ذلك فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد ﴿الحكيم﴾، أي : البليغ فيما يدبره ويقضيه.
﴿و﴾ لما ضاق قلب يعقوب عليه السلام بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين ﴿تولى عنهم﴾، أي : انصرف بوجهه عنهم لما توالى عنده من الحزن ﴿وقال يا أسفا﴾، أي : يا أسفي ﴿على يوسف﴾، أي : تعال هذا أوانك، والأسف اشدّ الحزن والحسرة، والألف بدل من ياء المتكلم، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث إنما هو مصيبتهما ؛ لأن مصيبته كانت قاعدة المصائب، والحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأوّل، كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبراً جديداً جدّد حزنه على أخيه مالك :
*فقالوا أتبكي كل قبر رأيته ** لقبر ثوى بين اللوى والدكادك ؟
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤٥
فقلت نعم إنّ الأسى يبعث الأسى ** فدعني فهذا كله قبر مالك