ولأنه كان واثقاً بحياتهما دون حياته، وفي حديث رواه الطبراني "لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمّة محمد ﷺ ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع، وقال ﴿يا أسفا﴾ ﴿وابيضت عيناه﴾، أي : انمحق سوادهما وبدل بياضاً ﴿من الحزن﴾، أي : من كثرة البكاء عليه، وقيل : عند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقيل : ضعف بصره حتى صار يدرك إدراكاً لطيفاً، وقيل : عمي، وقال مقاتل : لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف عليه السلام. قيل : إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن، فقال : إنّ بصر أبيك ذهب من الحزن عليك، فوضع يده على رأسه وقال : ليت أمي لم تلدني، ولم أكن حزناً على أبي.
فإن قيل : هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية وهو لا يليق بمثل يعقوب عليه السلام أجيب : بأنه لم يذكر إلا هذه الكلمة، ثم عظم بكاؤه، ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر ما لا ينبغي، ولم يظهر الشكاية مع أحد من الخلق ويدل لذلك قوله :﴿فهو كظيم﴾، أي : مغموم مكروب لا يظهر كربه وقوله :﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾ فكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية به، فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء الجزيل. روي أن يوسف عليه السلام قال لجبريل عليه السلام : هل لك علم بيعقوب ؟
قال : نعم. قال : فكيف حزنه ؟
قال : حزن سبعين ثكلى، وهي التي لها ولد واحد يموت. قال : فهل له أجر ؟
قال : نعم أجر مئة شهيد، ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد وأيضاً البكاء مباح فقد بكى رسول الله ﷺ على ولده إبراهيم وقال :
١٤٦
"القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون". رواه الشيخان.
تنبيه : شرف الإنسان باللسان والعين والقلب فبين تعالى أن هذه الثلاثة كانت غريقة في الغم، فاللسان كان مشغولاً بقوله : يا أسفا، والعين بالبكاء والبياض، والقلب بالغم الشديد، أي : الذي يشبه الوعاء المملوء الذي سد فلا يمكن خروج الماء منه، وهذا مبالغة في وصف ذلك الغم.
ولما وقع من يعقوب عليه السلام ذلك كأن قائلاً يقول : فما قال له أولاده ؟
فقيل :
﴿قالوا﴾ له حنقاً من ذلك ﴿تالله تفتؤ﴾، أي : لا تفتأ، أي : لا تزال ﴿تذكر يوسف﴾ تفجعاً، فتفتأ جواب القسم وهو على حذف لا كقول الشاعر :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤٥
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ** ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلام الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين أو أحدهما عند الكوفيين، فتفتأ هنا ناقصة بمعنى لا تزال كما تقرّر، ورسمت تفتؤ بالواو ﴿حتى﴾ إلى أن ﴿تكون حرضاً﴾، أي : مشرفاً على الهلاك لطول مرضك وهو مصدر يستوي فيه الواحد وغيره ﴿أو تكون من الهالكين﴾، أي : الموتى.
فإن قيل : لما حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً ؟
أجيب : بأنهم بنوا الأمر على الظاهر، قال أكثر المفسرين : قائل هذا الكلام هم أخوة يوسف، وقال بعضهم : ليس الأخوة بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاده وخدمه، ولما قالوا له ذلك فكأن قائلاً يقول : فما قال لهم ؟
فقيل :
﴿قال﴾ لهم ﴿إنما أشكو بثي﴾ والبث أشد الحزن سمي بذلك ؛ لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر ﴿وحزني﴾ مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته ﴿إلى الله﴾ المحيط بكل شيء علماً وقدرةً لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه ﴿وأعلم من الله﴾، أي : الملك الأعلى من اللطف بنا أهل البيت ﴿ما لا تعلمون﴾ فيأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً : أحدها : أنّ ملك الموت أتاه فقال له : يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف ؟
قال : لا يا نبي الله، ثم أشار إلى جانب مصر وقال : اطلبه من ههنا ولذلك قال :
﴿يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا﴾، أي : والتحسيس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسيس بالجيم، وقيل : التحسيس بالحاء يكون في الخير، وبالجيم يكون في الشرّ ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورة الناس، والمعنى تحسسوا خبراً ﴿من﴾ أخبار ﴿يوسف وأخيه﴾، أي : اطلبوا خبرهما.
وثانيها : أنه علم أنّ رؤيا يوسف عليه السلام صادقة ؛ لأنّ أمارات الرشد والكمال ظاهرة في
١٤٧
حق يوسف عليه السلام، ورؤيا مثله لا تخطئ.
وثالثها : لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عين الوقت، فلهذا بقي في القلق.


الصفحة التالية
Icon