﴿قالوا أئنك لأنت يوسف﴾ استفهام تقرير، ولذلك حقق بأن واللام عليه، وقيل : عرفوه بنظره وخلقه حين كلمهم، وقيل : رفع التاج عن رأسه فرآوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء، وكان لسارة ويعقوب وإسحاق مثلها. وقرأ ابن كثير بهمزة مكسورة بعدها نون على الخبر، وقرأ قالون وأبو عمرو بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة مسهلة بينهما ألف على الاستفهام، وقرأ ورش بغير ألف بينهما، والتسهيل في الثانية على الاستفهام أيضاً، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين مع القصر، ولهشام وجه ثان وهو المدّ، وقيل : أنهم لم يعرفوه حتى ﴿قال﴾ لهم ﴿أنا يوسف﴾ وزادهم بقوله ﴿وهذا أخي﴾ بنيامين شقيقي، وإنما ذكره لهم ليزيدهم ذلك معرفة له وتثبيتاً في أمره وليبني عليه قوله :﴿قد منّ الله علينا﴾ قال ابن عباس : بكل خير في الدنيا والآخرة. وقال آخرون :
١٤٩
بالجمع بيننا بعد التفرقة. ﴿إنه من يتق﴾، أي : المعاصي ﴿ويصبر﴾، أي : على البليات وأذى الناس وقال ابن عباس : يتقي الزنا ويصبر على العزوبة، وقال مجاهد : يتقي المعصية ويصبر على السجن ﴿فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ والمعنى أنه من يتق ويصبر، فإنّ الله لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين، وقرأ قنبل بإثبات الياء بعد القاف وقفاً ووصلاً، واختلف المعربون في ذلك على وجهين : أجودهما : أنّ إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب وأنشدوا عليه قول قيس بن زهير :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤٨
ألم يأتيك والأنباء تنمي
** بما لاقت لبون بني زياد
وقول الآخر :
*هجوت زبان ثم جئت معتذراً
** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وقول الآخر :
*إذا العجوز غضبت فطلقي
** ولا ترضاها ولا تلق
والثاني أنه مرفوع غير مجزوم ومن موصولة والفعل صلتها، فلذلك تمم بإثبات لامه وسكن (يصبر) لتوالي الحركات، وإن كانت في كلمتين، وقرأ الباقون بالحذف وقفاً ووصلاً، ولما ذكر يوسف عليه السلام لإخوته أنّ الله تعالى منّ عليه، وأنه من يتق ويصبر فإنّ الله تعالى لا يضيعهم صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمرتبة ولذلك.
﴿قالوا﴾ مقسمين بقولهم :﴿تالله﴾، أي : الملك الأعظم ﴿لقد آثرك﴾، أي : اختارك ﴿الله علينا﴾ بالعلم والعقل والحلم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أنّ إخوته ما كانوا أنبياء ؛ لأنّ جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوّة كالعدم بالنسبة إليه، فلو شاركوه في منصب النبوّة لما قالوا ذلك، ثم قالوا :﴿وإن كنا لخاطئين﴾، أي : والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، ولذلك أذلنا الله تعالى لك، فكأنه قيل : ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من
١٥٠
إهانتهم له ؟
فقيل :
﴿قال﴾ لهم قول الكرام اقتداءً بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ﴿لا تثريب﴾، أي : لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك ﴿عليكم اليوم﴾ وإنما خصه بالذكر ؛ لأنه مظنة التثريب فإذا انتفى ذلك فيه فما ظنك بما بعده، ولما أعفاهم من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله تعالى، فاتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله :﴿يغفر الله﴾، أي : الذي لا إله غيره ﴿لكم﴾، أي : ما فرط منكم، وعبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبة، ورغبّهم في ذلك، ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال :﴿وهو﴾ تعالى ﴿أرحم الراحمين﴾ لجميع العباد لا سيما التائب، فهو جدير بإدراك النعم.
روي أنهم أرسلوا إليه إنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي مما فرط منا، فقال : إن أهل مصر ينظرونني وإن ملكت فيهم بعين العبودية فيقولون : سبحان من بلغ عبداً بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من ذرية إبراهيم عليه السلام، ولما أقرّ أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى سأل عن أبيه فقال : ما فعل أبي بعدي ؟
قالوا : ابيضت عيناه من الحزن فأعطاهم قميصه وقال :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤٨


الصفحة التالية
Icon