اذهبوا بقميصي هذا} وهو قميص إبراهيم عليه السلام الذي لبسه حين ألقي في النار عرياناً فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيم، فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك في قصبة من فضة وسدّ رأسها وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين، وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عرياناً جاءه جبريل وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص وألبسه إياه، ففي الوقت جاء جبريل عليه السلام وقال : أرسل ذلك القميص، فإنّ فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال : إذا وصلتم إلى أبي ﴿فألقوه على وجه أبي يأت﴾، أي : يصر ﴿بصيراً﴾، أي : يردّ إليه بصره كما كان، أو يأت إليّ حال كونه بصيراً ﴿وأتوني﴾، أي : أبي وأنتم ﴿بأهلكم﴾، أي : مصاحبين لكم ﴿أجمعين﴾ لا يتخلف منكم أحد فرجعوا بالقميص لهذا القصد. وروي أنّ يهوذا هو الذي حمل القميص لما لطخوه بالدم فقال : لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف من مصر إلى كنعان، وبينهما ثمانون فرسخاً.
﴿ولما فصلت العير﴾ من عريش مصر وهو آخر بلاد مصر إلى أوّل بلاد الشأم ﴿قال أبوهم﴾ لولد ولده ومن حوله من أهله مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله :﴿إني لأجد ريح يوسف﴾ أوصلته إليه ريح الصبا بإذن الله تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر، قال مجاهد : هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص.
قال أهل المعاني : إنّ الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدّة المحنة ومجيء وقت الفرج من المكان البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل، ومعنى ﴿أجد ريح يوسف﴾ أشم وعبر بالوجود ؛ لأنه وجدان له بحاسة الشم ﴿لولا أن تفندون﴾، أي : تنسبوني إلى الخرف.
١٥١
قال أبو بكر الأنباري : أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله. وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند. قال في "الكشاف" : يقال : شيخ مفنّد ولا يقال : عجوز مفندة ؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى حتى تفند في كبرها، وقيل : التفنيد الإفساد يقال : فندت فلاناً إذا أفسدت رأيه ورددته قال بعضهم :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤٨
يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي
** فليس ما فات من أمر بمردود
ولما ذكر يعقوب عليه السلام ذلك
﴿قالوا﴾، أي : الحاضرون عنده ﴿تالله إنك لفي ضلالك﴾، أي : حبك ﴿القديم﴾ ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه على بعد العهد، وهو كقول إخوة يوسف :﴿إن أبانا لفي ضلال مبين﴾ (يوسف، ٨) وقال مقاتل : معنى الضلال هنا الشقاء، أي : شقاء الدنيا، والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابده من الأحزان على يوسف، وقال الحسن : إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أنّ يوسف قد مات، فكان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب، ثم أنهم عجلوا له بشيراً فأسرع قبل وصولهم بالقميص ﴿فلما﴾ وزيدت ﴿أن﴾ لتأكيد مجيئه على تلك الحالة، وزيادتها بعد لما قياس مطرد ﴿جاء البشير﴾ وهو يهوذا بذلك القميص ﴿ألقاه﴾، أي : طرحه البشير ﴿على وجهه﴾، أي : يعقوب، وقيل : ألقاه يعقوب على وجه نفسه ﴿فارتدّ﴾، أي : رجع ﴿بصيراً﴾، أي : صيره الله بصيراً كما كان، كما يقال : طالت النخلة، والله تعالى هو الذي أطالها. ولما ألقى القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه فعند ذلك ﴿قال﴾ لبنيه ﴿ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون﴾ من حياة يوسف وإنا الله تعالى يجمع بيننا، قال السهيليّ : لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام، أعطاه في : بشارته كلمات كان يرويها عن أبيه عن جدّه عليهم السلام، وهي : يا لطيفاً فوق كل لطيف ألطف بي في أموري كلها كما أحب ورضني في دنياي وآخرتي. وروي أنّ يعقوب عليه السلام قال للبشير : كيف تركت يوسف ؟
قال : تركته ملك مصر. قال : ما أصنع بالملك على أي دين تركته ؟
قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة فعند ذلك
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٤٨
﴿قالوا يا أبانا﴾ منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع ﴿استغفر﴾، أي : اطلب من الله تعالى أن يغفر ﴿لنا ذنوبنا﴾، أي : التي اقترفناها ثم قالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة ﴿إنا كنا خاطئين﴾، أي : متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف عليه السلام ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة. قال ﷺ "إنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه". فكأنه قيل : فما قال لهم ؟
فقيل :