أي : جميعاً على الدين الحق وهو دين الإسلام. وقيل على الضلال في فترة الرسل، واختلف القائلون بالأوّل أنهم متى كانوا كذلك. ؟
فقال ابن عباس ومجاهد : كانوا على دين الإسلام من لدن آدم إلى أن قَتَلَ قابيلُ هابيلَ. وقال قوم : إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون. ثم اختلفوا في عهد نوح فبعث الله تعالى إليهم نوحاً. وقال آخرون : كانوا على دين الإسلام من زمن نوح بعد الغرق حيث لم يذر الله على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقال آخرون : من عهد إبراهيم عليه السلام إلى زمن عمرو بن لحي، وهذا القائل قال : المراد من الناس في قوله تعالى :﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة﴾ العرب خاصة. ﴿فاختلفوا﴾ بأن ثبت بعض وكفر بعض. ﴿ولولا كلمة سبقت من ربك﴾ وهو تأخير الحكم إلى يوم القيامة، وقيل : تلك الكلمة هي قوله سبحانه : سبقت رحمتي غضبي. فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال، وإمهاله إلى وقت الوجدان ﴿لقضي بينهم﴾ أي : الناس بنزول العذاب في الدنيا دون يوم القيامة ﴿فيما فيه يختلفون﴾ من الدين بإهلاك المبطل، وإبقاء المحق، وكان ذلك فصلاً بينهم ﴿ويقولون﴾ أي : كفار مكة ﴿لولا﴾ أي : هلا ﴿أنزل عليه﴾ أي : محمد ﷺ ﴿آية من ربه﴾ أي : غير ما جاء به كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد ﴿فقل﴾ يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين ﴿إنما الغيب﴾ أي : ما غاب عن العباد أمره ﴿لله﴾ أي : هو المختص بعلمه، ومنه الآيات فلا يأتي بها إلا هو وإنما عليّ التبليغ ﴿فانتظروا﴾ أي : نزول ما اقترحتموه. وقيل نزول العذاب إن لم يؤمنوا ﴿إني معكم من المنتظرين﴾ أي : لما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحودكم الآيات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة في الآيات، رقية المسلك بين المعجزات مع عجزكم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١
وإذا أذقنا الناس﴾ أي : كفار مكة ﴿رحمة﴾ أي : صحة وسعة ﴿من بعد ضرّاء﴾ أي : شدّة وبلاء ﴿مستهم﴾ سلط الله تعالى القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد، وعاش الناس بعد ذلك فلم يتعظوا بذلك، بل
١٤
رجعوا إلى العناد والكفر كما قال تعالى :﴿إذا لهم مكر في آياتنا﴾ بالاستهزاء والتكذيب، وقيل : لا يقولون هذا من رزق الله، إنما يقولون : سُقينا بنوء كذا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ ﷺ قال :"إنّ الله تعالى ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها فيصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا" والنوء عند العرب : هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره ﴿قل الله﴾ أي : قل لهم يا محمد الله ﴿أسرع مكراً﴾ منكم، أي : أعجل عقوبة وأشدّ أخذاً وأقدر على الجزاء. ومعنى الوصف بالأسرعية : أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم والمكر إخفاء الكيد وهو من الله تعالى، أمّا الاستدراج أو الجزاء على المكر، فإنهم لما قابلوا نعمة الله بالمكر قابل مكرهم بأشد منه، وهو إمهالهم إلى يوم القيامة. ﴿إن رسلنا﴾ أي : الحفظة الكرام الكاتبين ﴿يكتبون ما تمكرون﴾ لأنهم وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً، ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما تفعلونه، ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأمّا هو سبحانه وتعالى فإنه إذا قضى قضاء لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا بإطلاعه فكيف بغيرهم، وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره علم أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع، ثم أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الآية قبلها ؛ لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح، يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي فقال :
﴿هو الذي يسيركم﴾ أي : يحملكم على السير في كل وقت تسيرون فيه لا تقدرون على الإنفكاك عنه ويمكنكم منه، ﴿في البرّ والبحر﴾ أي : يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما. وقرأ ابن عامر بعد الياء الأولى بنون ساكنة بعدها شين معجمة مضمومة، والباقون بسين مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشدّدة، ولما كان العطب بسير البحر أظهر مع أنَّ السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات بيّنه معرضاً عن ذكر البر بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١١