﴿وما يؤمن أكثرهم بالله﴾ حيث يقرّون بأنه الخالق الرازق ﴿إلا وهم مشركون﴾ بعبادته الأصنام قال تعالى :﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله﴾ (الزخرف، ٨٧) لكنهم كانوا يثبتون شريكاً في العبودية. وعن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في تلبية مشركي العرب كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك يعنون الأصنام. وعنه أيضاً أنّ أهل مكة قالوا : الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا، وقال عبدة الأصنام : ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود : ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى : المسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر : ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا، وقال المهاجرون والأنصار : ربنا الله وحده لا شريك له، ولما كان أكثر هؤلاء لا ينقادون إلا بالعذاب قال تعالى :
﴿أفأمنوا﴾ إنكار فيه معنى التوبيخ
١٥٨
والتهديد ﴿أن تأتيهم﴾ في الدنيا ﴿غاشية﴾، أي : نقمة تغشاهم وتشملهم ﴿من عذاب الله﴾، أي : الذي له الأمر كله كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم ﴿أو تأتيهم الساعة بغتة﴾، أي : فجأة وهم عنها في غاية الغفلة وقوله تعالى :﴿وهم لا يشعرون﴾، أي : بوقت إتيانها قبله كالتأكيد لقوله ﴿بغتة﴾. ولما كان ﷺ مبلغاً عن الله تعالى أمره أن يأمرهم باتباعه بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٥٧
قل﴾ يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً ﴿هذه﴾، أي : الدعوة إلى الله تعالى التي أدعو إليها ﴿سبيلي﴾، أي : طريقتي التي أدعو إليها الناس، وهي توحيد الله تعالى ودين الإسلام وسمي الدين سبيلاً ؛ لأنه الطريق المؤدّي إلى ثواب الجنة ﴿أدعو إلى الله﴾، أي : إلى توحيده والإيمان به ﴿على بصيرة﴾، أي : حجة واضحة وقوله ﴿أنا﴾ تأكيد للمستتر في أدعو على بصيرة ؛ لأنه حال منه أو مبتدأ خبره على بصيرة وقوله :﴿ومن اتبعني﴾، أي : ممن آمن بي وصدق بما جاءني عطف عليه ؛ لأنّ كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدور وسعه إلى الله، وهذا دلّ على أن الدعاء إلى الله إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول ويقين، فإن لم يكن كذلك وإلا فهو محض الغرور، وقال ﷺ "العلماء أمناء الرسل على عباد الله" من حيث يحفظون ما يدعون إليه.
فائدة : جميع القراء يثبتون الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم ﴿وسبحان﴾، أي : وقل سبحان ﴿الله﴾ تنزيهاً له تعالى عما يشركون به ﴿وما أنا من المشركين﴾، أي : الذين اتخذوا مع الله ضدًّا وندًّا، ولما قال أهل مكة للنبيّ ﷺ هلا بعث الله ملكاً ؟
قال تعالى :
﴿وما أرسلنا من قبلك﴾ إلى المكلفين ﴿إلا رجالاً﴾، أي : مثل ما أنك رجل لا ملائكة ولا إناثاً كما قاله ابن عباس، ولا من الجنّ كما قاله الحسن، ﴿يوحى إليهم﴾، أي : بواسطة الملائكة مثل ما يوحي إليك. وقرأ حفص قبل الواو بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء وضم الهاء من إليهم حمزة على أصله، وكسرها الباقون ﴿من أهل القرى﴾، أي : من أهل الأمصار والمدن المبنية بالمدر والحجر ونحوه لا من أهل البوادي ؛ لأنّ أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل وأعقل من أهل البوادي، ومكة أم القرى ؛ لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت وكان العرب كلهم يأتونها فكيف تعجبوا في حقك ؟
قال الحسن : لم يبعث الله نبياً من البادية لغلظهم وجفائهم، ثم هدّدهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى :﴿أفلم يسيروا﴾، أي : هؤلاء المشركون المكذبون ﴿في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ من المكذبين للرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ويعتبروا بهم وبما حلّ بهم من عذابنا. ولما أنّ الله تعالى نجى المؤمنين عند نزول العذاب بالأمم الماضية المكذبة وما في الآخرة خير لهم بين ذلك بقوله تعالى :﴿ولدار الآخرة﴾، أي : ولدار الحال الآخرة أو الساعة الآخرة أو الحياة الآخرة ﴿خير﴾ وهي الجنة ﴿للذين اتقوا﴾ الله من حياة مآلها الموت، وإن فرحوا فيها بالمحال وإن امتدّت ألف عام وكان عيشها كله رغداً من غير آلام ﴿أفلا يعقلون﴾ فيستعملون
١٥٩
عقولهم فيتبعون الداعي إلى هذا السبيل الأقوم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة، والباقون بالياء على الغيبة لهم وللمشركين المكذبين وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٥٧