﴿أولئك﴾، أي : الذين جمعوا أنواعاً من البعد من كل خير ﴿الذين كفروا بربهم﴾، أي : غطوا ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم، ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا بدأهم ﴿وأولئك﴾ البعداء البغضاء ﴿الأغلال﴾ يوم القيامة ﴿في أعناقهم﴾ بسبب كفرهم، والغل : طوق من حديد تقيد به اليد في العنق، وقيل : المراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير الذليل بالغل، وقيل : إنهم مقيدون بالضلال لا يرجى فلاحهم. ﴿وأولئك﴾، أي : الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم ﴿أصحاب النار هم فيها خالدون﴾، أي : ثابت خلودهم دائماً لا يخرجون منها ولا يموتون. ولما كان ﷺ يهدّدهم تارة بعذاب يوم القيامة وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلما هدّدهم بعذاب يوم القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر، وهو الذي تقدّم ذكره في الآية الأولى، وكلما هدّدهم بعذاب الدنيا قالوا له : فجئنا بهذا العذاب، وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن وإظهار أنّ الذي يقول كلام لا أصل له نزل :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦٤
﴿ويستعجلونك﴾، أي : استهزاء وتكذيباً، والاستعجال طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له ﴿بالسيئة﴾، أي : العذاب ﴿قبل الحسنة﴾، أي : الرحمة، وذلك أنّ مشركي مكة كانوا يقولون : اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذا أليم.
تنبيه : قوله ﴿قبل الحسنة﴾ فيه وجهان : أحدهما : متعلق بالاستعجال ظرفاً له والثاني : أنه
١٦٦
متعلق بمحذوف على أنه حال مقدرة من السيئة قاله أبو البقاء. ﴿وقد﴾، أي : والحال أنه قد ﴿خلت من قبلهم المثلات﴾ جمع مثلة بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، أي : عقوبات أمثالهم من المكذبين أفلا يعتبرون بها. ﴿وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم﴾ وإلا لم يترك على ظهرها دابة كما قال تعالى :﴿ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة﴾ (فاطر، ٤٥). وقال ابن عباس : معناه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا. ﴿وإنّ ربك لشديد العقاب﴾ للمصرين على الشرك الذين ماتوا عليه. وقال مقاتل : إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وشديد العقاب إذا عاقب. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ الكفار طعنوا في نبوة النبيّ ﷺ بسبب طعنهم في الحشر والنشر أوّلاً، ثم طعنوا في نبوّته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً، ثم طعنوا في نبوّته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة. ثالثاً، وهو المذكور في قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٦٦
ويقول الذين كفروا لولا﴾، أي : هلا ﴿أنزل عليه﴾، أي : محمد ﷺ ﴿آية من ربه﴾، أي : مثل عصا موسى وناقة صالح وذلك ؛ لأنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات، وقالوا : هذا كتاب مثل سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزاً مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، وكان نبينا ﷺ راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدّة التفاته إلى إيمانهم قال الله تعالى له :﴿إنما أنت منذر﴾، أي : ليس عليك إلا الإنذار والتخويف، وليس عليك إتيان الآيات. ﴿ولكل قوم هاد﴾، أي : نبيّ يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون. وقرأ ابن كثير في الوقف بياء بعد الدال، وفي الوصل بغير ياء وتنوين الدال، والباقون بغير ياء في الوقف والوصل مع تنوين الدال. ولما سألوا رسول الله ﷺ الآيات أخبرهم الله تعالى عن عظيم قدرته وكمال علمه بقوله تعالى :
﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى﴾ من ذكر وغيره وواحد ومتعدّد وغير ذلك ﴿وما تغيض﴾، أي : تنقص ﴿الأرحام﴾ من مدّة الحمل ﴿وما تزداد﴾، أي : من مدّة الحمل فقد تكون سبعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند الإمام أبي حنيفة، وإلى اربع عند الإمام الشافعي، وإلى خمس عند الإمام مالك رضي الله تعالى عنهم.
وقيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمي هرماً. وقيل : ما تنقصه الرحم من الأولاد وتزيده منهم. يروى أنّ شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمّه. وقيل : من نقصان الولد فيخرج ناقصاً والزيادة تمام خلقه. وقيل : ما تنقص بالسقط عن أن يتم وما يزداد بالتمام. وقيل : ما تنقص بظهور دم الحيض، وذلك أنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص بمقدار حصول ذلك. قال ابن عباس : كلما سال الحيض في وقت الحمل يوماً زاد في مدّة الحمل يوماً ليحصل الجبر ويعتدل الأمر والآية تحتمل جميع ذلك إذ لا تنافي في هذه الأقوال. ويدل لذلك قوله تعالى :﴿وكل شيء﴾ من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها ﴿عنده﴾، أي : في علمه وقدرته ﴿بمقدار﴾ في كيفيته وكميته لا يجاوزه ولا يقصر عنه لأنه تعالى عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين.