وقال قتادة : هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله ﷺ لعلي :"أكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهل بن عمرو : لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعني مسيلمة الكذاب أكتب كما كنت تكتب باسمك اللهمّ" فهذا معنى قوله :﴿وهم يكفرون بالرحمن﴾، أي : أنهم يكفرونه ويجحدونه. قال البغويّ : والمعروف أنّ الآية مكية، وسبب نزولها أنّ أبا جهل سمع النبيّ ﷺ وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فرجع إلى المشركين فقال : إنّ محمداً يدعو الله ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى :﴿قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى﴾ (الإسراء، ١١٠). وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبيّ ﷺ "اسجدوا للرحمن" قالوا : وما الرحمن ؟
قال الله تعالى :﴿قل﴾ لهم يا محمد إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته ﴿هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت﴾، أي : اعتمدت عليه في أموري كلها ﴿وإليه متاب﴾، أي : مرجعي ومرجعكم. روي أنّ أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم النبيّ ﷺ وعرض الإسلام عليهم، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي : سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا، واجعل لنا فيها أنهاراً نزرع فيها، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقول أم باطل ؟
فقد كان عيسى يحي الموتى، وسخر لنا الريح حتى نركبها إلى البلاد، فقد كانت الريح مسخرة لسليمان، فلست بأهون على ربك من سليمان، فنزل قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٧٧
١٧٩
﴿ولو أن قرآناً سيرت به الجبال﴾، أي : نقلت عن أماكنها ﴿أو قطعت﴾، أي : شققت ﴿به الأرض﴾ من خشية الله تعالى عند قراءته، فجعلت أنهاراً وعيوناً. ﴿أو كلم به الموتى﴾، أي : بأن يحيوا، وجواب لو محذوف، أي : لكان هذا القرآن في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين مراده، وهذا معنى قول قتادة قال : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقيل : تقديره لما آمنوا، ونقل عن الفراء أنّ جواب لو هي الجملة من قوله :﴿وهم يكفرون﴾ ففي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن لو أنّ قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن، ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم.
فإن قيل : لم حذفت التاء في قوله تعالى :﴿وكلم به الموتى﴾ وثبتت في الفعلين قبله ؟
أجيب : بأنه من باب التغليب ؛ لأنّ الموتى يشمل المذكر والمؤنث. ﴿بل لله الأمر﴾، أي : القدرة على كل شيء ﴿جميعاً﴾ وهذا إضراب عما تضمنته لو من معنى النفي، أي : بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك لعلمه تعالى بأنه لا يلين قلوبهم ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿أفلم ييأس الذين آمنوا﴾ عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم وذهب أكثرهم إلى أنّ معناه : أفلم يعلم الذين آمنوا ﴿أن﴾، أي : بأنه ﴿لو يشاء الله﴾، أي : الذي له صفات الكمال ﴿لهدى الناس جميعاً﴾، أي : إلى الإيمان من غير آية، ولكنه تعالى لم يشأ هداية جميع الخلائق ﴿ولا يزال الذين كفروا﴾، أي : جميع الكفار ﴿تصيبهم بما﴾، أي : بسبب ما ﴿صنعوا قارعة﴾، أي : نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا تارة بالجدب، وتارة بالسلب وتارة بالقتل، وتارة بالأسر وغيرذلك. واختلف في الكفار على قولين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٧٩
قيل : أراد بهم جميع الكفار، لأنّ الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من ذلك أوجبت حصول الغم في قلب الكل.
وقيل : المراد الكفار من أهل مكة والألف واللام للمعهود السابق ويدل لهذا قول ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله ﷺ يبعثها إليهم ﴿أو تحل﴾، أي : تنزل نزولاً ثابتاً تلك القارعة ﴿قريباً من دارهم﴾، أي : فتوهن أمرهم، وقيل : معناه أو تحل أنت يا محمد بجيشك قريباً من دارهم مكة كما حل بالحديبية ﴿حتى يأتي وعد الله﴾، أي : بالنصر وظهور رسول الله ﷺ ودينه بفتح مكة، أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك ؛ لأنه
١٨٠
لا يبقى على الأرض كافر.
وقيل : أراد بوعد الله يوم القيامة ؛ لأنّ الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم ﴿إنّ الله لا يخلف الميعاد﴾ لامتناع الكذب في كلامه تعالى. ولما كان الكفار يسألون هذه الآيات منه ﷺ على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه ويتأذى من تلك الكلمات أنزل الله تعالى تسلية له وتصبيراً له على سفاهة قومه :


الصفحة التالية
Icon