﴿ولقد استهزئ برسل من قبلك﴾ كما استهزئ بك ﴿فأمليت للذين كفروا، أي : أطلت المدّة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم﴾ بالعقوبة ﴿فكيف كان عقاب﴾، أي : هو واقع موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك، والإملاء الإمهال بأن يترك مدّة من الزمان في راحة وأمن كالبهيمة يملي لها في المرعى، وهذا استفهام معناه التعجب، وفي ضمنه وعيد شديد لهم، وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله ﷺ على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج، وما يكون توبيخاً لهم وتعجيباً من عقولهم فقال تعالى :
﴿أفمن هو قائم﴾، أي : رقيب ﴿على كل نفس بما كسبت﴾، أي : عملت من خير وشر وهو الله تعالى القادر على كل الممكنات العالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات، ولا بدّ لهذا الكلام من جواب فإن من موصولة صلتها هو قائم، والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره كمن ليس بهذه الصفة، وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ دل على هذا المحذوف قوله تعالى :﴿وجعلوا لله شركاء﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام﴾ (الزمر، ٢٢) الآية تقديره كمن قسا قلبه يدل عليه قوله :﴿فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله﴾ (الزمر، ٢٢) وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً كقوله تعالى :﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق﴾ (النحل، ١٧) وقوله تعالى :﴿قل سموهم﴾ فيه تنبيه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقونها، والمعنى : سموهم بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا عرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز، ومحل الفقر عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قيل : أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده ؟
﴿أم تنبئونه﴾، أي : تخبرونه ﴿بما لا يعلم﴾ وعلمه محيط بكل شيء ﴿في الأرض﴾ من كونها آلهة ببرهان قاطع ﴿أم﴾ تسمونهم شركاء ﴿بظاهر من القول﴾، أي : بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلم فليس بشيء، وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٧٩
ولما كان التقدير ليس لهم على شيء من هذا برهان قاطع، ولا قول ظاهر بنى عليه قوله تعالى :﴿بل زين﴾، أي : وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان من شياطين الإنس أو شياطين الجنّ. ﴿للذين كفروا مكرهم﴾، أي : أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أنّ شركاءهم آلهة حقاً وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى، ولتشفع لهم، وهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فصار كل ذلك من فعلهم فعل الماكر ﴿وصدّوا﴾ غيرهم ﴿عن السبيل﴾، أي : طريق الهدى الذي لا يقال لغيره سبيل، فإنّ غيره عدم بل العدم خير منه، فهم لم يسلكوا السبيل، ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، وليس ذلك بعجيب فإنّ الله أضلهم ﴿ومن يضلل الله﴾، أي : الذي له الأمر كله بإرادة إضلاله ﴿فما له من هاد﴾ وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد الدال في الوقف دون الوصل، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. وكذلك من واق وكذا ولا واق. ولما أخبر الله تعالى بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة بقوله تعالى :
﴿لهم عذاب في الحياة الدنيا﴾ بالقتل والأسر والذم والإهانة واغتنام الأموال
١٨١
واللعن، ونحو ذلك مما فيه غيظهم ﴿ولعذاب الآخرة أشق﴾، أي : أشدّ في المشقة بسبب القوّة والشدّة وكثرة الأنواع والدوام، وعدم الانقطاع، ثم بين تعالى أنّ أحداً لا يقيهم من عذابه بقوله تعالى :﴿وما لهم من الله من واق﴾، أي : مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل من الوقاية، وهي الحجز بما يدفع الأذية. ولما ذكر تعالى عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين بقوله تعالى :