﴿مثل﴾، أي : صفة ﴿الجنة﴾، أي : التي هي مقرهم ﴿التي وعد المتقون﴾ واختلف في إعراب ذلك على أقوال : الأوّل : قال سيبويه :﴿مثل الجنة﴾ مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصناه عليك ﴿مثل الجنة﴾. والثاني : قال الزجاج :﴿مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث : مثل الجنة﴾ مبتدأ وخبره. ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ كما تقول صفة زيد أسمر، والرابع الخبر. ﴿أكلها﴾، أي : مأكولها ﴿دائم﴾ لأنه الخارج عن العادة، فقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف، الأوّل : تجري من تحتها، أي : من تحت قصورها وأشجارها الأنهار. الثاني : إن أكلها دائم لا ينقطع أبداً بخلاف جنة الدنيا. والثالث : قوله تعالى :﴿وظلها﴾، أي : دائم ليس كظل الدنيا لا تنسخه الشمس ولا غيرها إذ ليس فيها شمس ولا قمر ولا ظلمة، بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول. ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بيّن تعالى أنها للمتقين بقوله تعالى :﴿تلك﴾، أي : الجنة العالية الأوصاف ﴿عقبى﴾، أي : آخر أمر ﴿الذين اتقوا﴾، أي : الشرك، ثم كرر الوعيد للكافرين بقوله تعالى ﴿وعقبى﴾، أي : منتهى أمر ﴿الكافرين النار﴾ لا غير، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين. واختلف في قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٧٩
على قولين الأوّل : أنهم أصحاب محمد ﷺ والمراد بالكتاب القرآن ﴿يفرحون بما أنزل إليك﴾ من أنواع التوحيد والعدل والنبوّة والبعث والأحكام والقصص ﴿ومن الأحزاب﴾، أي : الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار ﴿من ينكر بعضه﴾ وهذا قول الحسن وقتادة.
فإن قيل : الأحزاب منكرون كل القرآن ؟
أجيب : بأنهم لا ينكرون كل ما في القرآن، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء، والأحزاب لا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني : أنّ المراد بالكتاب التوراة، وبأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثمانية من اليمن واثنان وثلاثون من أرض الحبشة، وفرحوا بالقرآن ؛ لأنهم آمنوا به وصدّقوه، والأحزاب بقية أهل الكتاب، وسائر المشركين، وقيل : كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما اسلم عبد الله بن سلام ومن تبعه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرّر الله تعالى ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله تعالى :﴿والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه﴾ (الرعد، ٣٦) يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله ﷺ في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم قالوا : ما نعرف إلا رحمن اليمامة ؟
يعني مسيلمة فأنزل الله تعالى :﴿وهم بذكر الرحمن هم كافرون﴾ (الأنبياء، ٣٦). ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد وبينه بألفاظ قليلة فقال :﴿قل﴾، أي : يا أكرم الخلق على الله
١٨٢
تعالى ﴿إنما أمرت﴾، أي : وقع إليّ الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغيير ممن له الأمر كله ﴿أن أعبد الله﴾، أي : وحده، ولذلك قال :﴿ولا أشرك به﴾ شيئاً ﴿إليه﴾ وحده ﴿أدعو وإليه مآب﴾، أي : مرجعي للجزاء لا إلى غيره.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٢
وكذلك﴾
، أي : كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم ﴿أنزلناه﴾، أي : القرآن ﴿حكماً﴾ والحكم فصل الأمر على الحق ﴿عربياً﴾ بلسانك ولسان قومك، وإنما سمي القرآن حكماً ؛ لأنّ فيه جميع التكاليف والحلال والحرام، والنقض والإبرام، فلما كان سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. وروي أنّ المشركين كانوا يدعون النبيّ ﷺ إلى ملة آبائه، فوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب بأن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله تعالى عنها بقوله تعالى :﴿ولئن اتبعت أهواءهم﴾، أي : الكفار فيما يدعونك إليه من ملتهم ﴿بعد ما جاءك من العلم﴾، أي : بأنك على الحق وأن قبلتك هي الكعبة ﴿ما لك من الله من ولي﴾، أي : ناصر ﴿ولا واق﴾، أي : مانع من عذابه. وقال ابن عباس : الخطاب مع النبيّ ﷺ والمراد أمته. ونزل لما عير الكفار النبيّ ﷺ بكثرة النساء.


الصفحة التالية
Icon