فإن قيل : لم ذكر تعالى في سورة البقرة ﴿يذبحون﴾ بغير واو وذكره هنا مع الواو ؟
أجيب : بأنها إنما حذفت في سورة البقرة ؛ لأنها تفسير لقوله تعالى :﴿يسومونكم سوء العذاب﴾ وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وهنا أدخل الواو فيه ؛ لأنه نوع آخر لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح فليس تفسيراً للعذاب ﴿وفي ذلكم بلاء﴾، أي : إنعام وابتلاء ﴿من ربكم عظيم﴾ لأنّ الابتلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً، ومنه قوله تعالى :﴿ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة﴾ (الأنبياء، ٣٥). فإن قيل : تذبيح الأبناء فيه بلاء، وأمّا استحياء النساء فكيف فيه ابتلاء ؟
أجيب : بأنهم كانوا يستحيونهن ويتركونهنّ تحت أيديهم كالإماء، فكان ذلك ابتلاء.
١٩١
وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٨
وإذ﴾
، أي : واذكروا إذ ﴿تأذن ربكم﴾ فهو أيضاً من كلام موسى عليه السلام، وتأذن بمعنى أذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة ﴿لئن شكرتم﴾.
يا بني اسرائيل نعمتي بالتوحيد والطاعة ﴿لأزيدنكم﴾ نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود، والشكر عبارة عن الإعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة، ثم قد يرتقي العبد عن تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة، ولاشك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته، وأما الزيادة في النعمة فهي على قسمين : روحانية وجسمانية، فالأولى هي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعمة الله تعالى، وأنواع فضله وكرمه، وأما الثانية : فلأن الاستقراء دل على أنّ كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر نسأل الله تعالى القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه، ويفعل ذلك بأهلينا وأحبابنا. ثم إنه تعالى لما ذكر ما يستحقه الشاكر ذكر ما يستحقه مقابله بقوله تعالى :﴿ولئن كفرتم﴾، أي : جحدتم النعمة بالكفر والمعصية لأعذبنكم دل عليه ﴿إن عذابي لشديد﴾، أي : لمن كفر نعمتي ولا يشكرها، ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد، ولما بيّن موسى أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا والآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر، وصاحب الكفران، وأما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى :
﴿وقال موسى إن تكفروا أنتم﴾ يا بني اسرائيل ﴿ومن في الأرض﴾ وأكده بقوله تعالى :﴿جميعاً﴾، أي : من الثقلين فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم وحرمتموها الخير كله ﴿فإن الله لغني﴾ عن جميع خلقه فلا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينقص بكفر الكافرين ﴿حميد﴾، أي : محمود في جميع أفعاله ؛ لأنه فيها متفضل عادل وقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٨٨
﴿ألم يأتكم﴾ يا بني اسرائيل ﴿نبأ﴾، أي : خبر ﴿الذين من قبلكم قوم نوح﴾ وكانوا ملء الأرض ﴿و﴾ نبأ ﴿عاد﴾ قوم هود وكانوا أشد الناس أبداناً ﴿و﴾ نبأ ﴿ثمود﴾ قوم صالح وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور يحتمل أن يكون من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من الله تعالى لقوم محمد ﷺ وهو استفهام تقرير وقوله تعالى :﴿والذين من بعدهم﴾، أي : بعد هؤلاء الأمم الثلاثة ﴿لايعلمهم إلا الله﴾ فيه قولان ؛ الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله تعالى ؛ لأن المذكور في القرآن جملة، فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل، والقول الثاني : إنّ المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله، ولذلك كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب إلى آدم عليه السلام، وقد نفى الله علمها عن العباد. وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿وقروناً بين ذلك كثيراً وكلاً ضربنا له الأمثال وكلاً تبرنا تتبيراً﴾ (الفرقان : ٣٨، ٣٩) وقوله تعالى :{منهم من قصصنا
١٩٢
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢


الصفحة التالية
Icon