عليك ومنهم من لم نقصص عليك} (غافر، ٧٨). وعنه ﷺ أنه كان في انتسابه لا يجاوز معدّ بن عدنان بن أدر وقال :"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق". قال الرازي : والقول الثاني أقرب. ولما ﴿جاءتهم﴾، أي : هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم ﴿رسلهم بالبينات﴾، أي : الدلائل الواضحات والمعجزات الباهرات أتوا بأمور أوّلها ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى :﴿فردّوا﴾، أي : الأمم ﴿أيديهم في أفواههم﴾ وفي ذلك احتمالات : الأول : أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى :﴿عضوا عليكم الأنامل من الغيظ﴾ (آل عمران، ١١٩).
والثاني : أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية، فعند ذلك ردّوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك، فيضع يده على فيه.
والثالث : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام، واسكتوا عن ذكر هذا الحديث.
والرابع : أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم الكفر كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى :﴿وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به﴾ أي : على زعمكم أي : أن هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق هذا هو الأمر الثاني الذي أتوا به، وقيل : الضمير في ردوا راجع للرسل عليهم السلام، وفيه وجهان :
أحدهما أنّ الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوا وليقطعوا الكلام.
والثاني : أنّ الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم، على أفواه أنفسهم فإنّ من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه، وغرضه أن يعرّفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكلام البتة، والأمر الثالث : قولهم :﴿وإنا لفي شك مما﴾، أي : شيء ﴿تدعوننا﴾ أيها الرسل ﴿إليه﴾، أي : من الدين ﴿مريب﴾، أي : موجب الريبة، أي : موقع في الريبة والشبهة والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه. فإن قيل : إنهم قالوا أولاً : إنّا كفرنا بما أرسلتم به، فكيف يقولون ثانياً (وإنا لفي شك) والشك دون الكفر ؟
أجيب : بأنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل كلهم حصل لهم شبه توجب الشك لهم فقالوا : إن لم ندع الجزم واليقين في كفرنا فلا أقلّ من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم. ولما قال هؤلاء الكفار للرسل ذلك.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
قالت﴾ لهم ﴿رسلهم﴾ مجيبين ﴿أفي الله شك﴾، أي : هل تشكون في الله ؟
وهو استفهام انكار، أي : لا شك في توحيده للدلائل الظاهرة عليه منها قوله تعالى :﴿فاطر﴾، أي : خالق ﴿السموات والأرض﴾، أي : وما فيهما من الأنفس والأرواح والأرزاق، وقرأ أبو عمرو رسلهم هنا وفيما مر في ﴿جاءتهم رسلهم﴾ بإسكان السين، والباقون بالرفع. ولما أقاموا الدليل على وجود الله تعالى وصفوه بكمال الرحمة بقولهم :﴿يدعوكم﴾، أي :
١٩٣
إلى الإيمان ببعثنا وقولهم :﴿ليغفر لكم﴾ اللام متعلقة بيدعو، أي : لأجل غفران ذنوبكم كقوله :
*دعوت لما نالني مسورا
** فلبى فلبى يدي مسور
ويجوز أن تكون معدية كقوله : دعوتك لزيد، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم وقوله :﴿من ذنوبكم﴾ قال السيوطي : من زائدة فإنّ الإسلام يغفر به ما قبله، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد اه. أي : والمغفور لهم ما بينهم وبين الله تعالى. قال الرازي : والعاقل لا يجوز له المصير إلى كلمة من كلام الله تعالى بأنها زائدة من غير ضرورة اه.
وقال في "الكشاف" : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله :﴿واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم﴾ (نوح : ٣، ٤) ﴿يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم﴾ (الأحقاف، ٣٢). وقال في خطاب المؤمنين :﴿ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم﴾ (الصف : ١١، ١٢)
وغيرذلك مما يوقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، وأن لا يسوّى بين الفريقين في المعاد اه. قال الرازي : وأما قول "الكشاف" فهو من باب الظلمات ؛ لأنّ هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً. ﴿ويؤخركم﴾، أي : ولا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة في الإهلاك لمن خالفهم بل يؤخركم. ﴿إلى أجل مسمى﴾، أي : إلى وقت قد سماه وبين مقداره يبلغكموه إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إن أنتم ما آمنتم. فإن قيل : أليس قال تعالى :﴿فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ (الأعراف، ٣٤)
فكيف قال هنا :﴿ويؤخركم إلى أجل مسمى﴾ (إبراهيم، ١٠)
أجيب : بأنّ الأجل على قسمين : معلق ومبرم.