﴿قالوا﴾، أي : الأمم مجيبين للرسل. ﴿إن﴾، أي : ما ﴿أنتم﴾ أيها الرسل ﴿إلا بشر مثلنا﴾، أي : لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوّة دوننا ولو أرسل الله تعالى إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس، أي : من البشر في زعم القائلين أفضل، وقول "الكشاف" : وهم الملائكة جار على مذهبه. ﴿تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا﴾، أي : ما تريدون بقولكم هذا إلا صدّنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها ﴿فأتونا بسلطان مبين﴾، أي : بحجة ظاهرة على صدقكم. ولما حكى الله تعالى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوّة حكى عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جوابهم عنها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
قالت لهم رسلهم﴾ مجيبين لهم ﴿إن﴾، أي : ما ﴿نحن إلا بشر مثلكم﴾ كما قلتم، فسلموا أنّ الأمر كذلك لكنهم بينوا أنّ التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض بمنصب النبوّة بقولهم ﴿ولكنّ الله يمنّ﴾ أي : يتفضل ﴿على من يشاء من عباده﴾ بالنبوّة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف، كما قال تعالى :﴿الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (الأنعام، ١٢٤)
. ﴿وما كان﴾، أي : ما صح واستقام ﴿لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله﴾، أي : إلا بأمره ؛ لأنا عبيد مربوبون فليس إلينا الاتيان بالآيات، ولا تستبد به استطاعتنا حتى نأتيكم بما اقترحتموه، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله تعالى فله أن
١٩٤
يخص كل نبيّ بنوع من الآيات. ﴿وعلى الله فليتوكل﴾ بأمر حتم ﴿المؤمنون﴾، أي : يثقوا به فلا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله، واعتمادنا على فضل الله، فإن الروح متى كانت مشرفة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء علم الغيب قلما تبالي بالأحوال الجسمانية، وقلما تقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء فلهذا توكلوا على الله، وعوّلوا على فضله، وقطعوا أطماعهم عمن سواه، وعمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أوّلياً ألا ترى إلى قولهم :
﴿وما لنا أن لا نتوكل على الله﴾، أي : أيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه ﴿وقد هدانا سبلنا﴾، أي : وقد عرّفنا طريق النجاة وبيّن لنا الرشد، فإنّ من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مقام الإخلاص والمكاشفة يقبح عليه أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى يعصم أولياءه، والمخلصين في عبوديته عن كيد أعدائهم ومكرهم. وقرأ أبو عمرو بسكون الباء والباقون بالرفع، وكذلك لرسلهم سكن أبو عمرو السين ورفعها الباقون، ثم قالوا :﴿ولنصبرنّ على ما آذيتمونا﴾ فإنّ الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لا بدّ وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بدّ وأن يصير مغلوباً مقهوراً ثم قالوا :﴿وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾. فإن قيل : ، أي : فرق بين التوكلين ؟
أجيب : بأنّ الأوّل لاستحداث التوكل والثاني طلب دوامه، ، أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم. ولما حكى الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
وقال الذين كفروا لرسلهم﴾ مستهينين لمن قصروا التجاءهم عليه. ﴿لنخرجنكم من أرضنا﴾، أي : التي لنا الآن الغلبة عليها. ﴿أو لتعودنّ في ملتنا﴾، أي : حلفوا ليكونن أحد الأمرين إمّا إخراجكم أيها الرسل، وإمّا عودكم إلى ملتنا، أي : ديننا. فإن قيل : قد يفهم هذا بظاهره أنهم كانوا على ملتهم قبل ذلك ؟
أجيب : بأنّ العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية، لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ولكن عاد يقولون ما عدت أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. وقد أجمعت الأمّة على أنّ الرسل من أوّل الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه فغلبوا الجماعات على الواحد، وقيل :﴿أو لتعودنّ في ملتنا﴾ (الأعراف، ٨٨)
إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عند ذكر معايبه وعدم التعرّض له بالطعن والقدح. ولما ذكر الكفار هذا الكلام قال تعالى :﴿فأوحى إليهم﴾، أي : الرسل ﴿ربهم﴾ وقوله تعالى :﴿لنهلكنّ الظالمين﴾، أي : الكافرين حكاية تقتضي إضمار القول أو أجرى الايحاء مجرى القول ؛ لأنه ضرب منه.
﴿ولنسكننكم الأرض﴾، أي : أرضهم ﴿من بعدهم﴾، أي : بعد هلاكهم ونظيره قوله تعالى :﴿وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها﴾ (الأعراف، ١٣٧)
وقوله تعالى :﴿وأورثكم أرضهم وديارهم﴾ (الأحزاب، ٢٧)
. قال الزمخشري : وعن النبيّ ﷺ "من آذى جاره ورثه الله داره". قال : ولقد عاينت هذا في مدّة قريبة كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها
١٩٥