ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم، وملكني الله ضيعته، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون، منها ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله ﷺ وحدثتهم به وسجدنا شكراً لله تعالى. ﴿ذلك﴾، أي : النصر وإيراث الأرض ﴿لمن خاف مقامي﴾، أي : موقفي وهو موقف الحساب ؛ لأنّ ذلك الموقف موقف الله الذي يوقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره ﴿وأمّا من خاف مقام ربه﴾ (النازعات، ٤٠)
وقوله تعالى :﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرخمن، ٤٦)
وقيل :﴿ذلك لمن خاف مقامي﴾ (إبراهيم، ١٤)، أي : خافني، فالمقام مقحم مثل ما يقال : سلام على المجلس العالي والمراد السلام على فلان ﴿وخاف وعيد﴾ قال ابن عباس : ما أوعدت من العذاب، وهذا يدل على أنّ الخوف من الله غير الخوف من وعيده ؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة، وفي تفسير قوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
واستفتحوا﴾
قولان : أحدهما : طلب الفتح، أي : واستنصروا الله تعالى على أعدائهم وهو كقوله تعالى :﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح﴾ (الأنفال، ١٩)
والثاني : الفتح الحكم والقضاء، أي : واستحكموا الله وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة، وهي الحكومة كقوله تعالى :﴿ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ (الأعراف، ٨٩)
. فعلى القول الأول المستفتح هم الرسل ؛ لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم. قال نوح :﴿رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً﴾ (نوح، ٢٦)
وقال موسى :﴿ربنا اطمس على أموالهم﴾ (يونس، ٨٨)
وقال لوط :﴿انصرني على القوم المفسدين﴾ (العنكبوت، ٣٠)
. وعلى القول الثاني : قال الرازي : فالأولى أن يكون المستفتح هم الأمم وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين، فعذبنا، ومنه قول كفار ﴿قريش : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء﴾ (الأنفال، ٣٢)
. وكقول آخرين :﴿ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين﴾ (العنكبوت، ٢٩)
. ﴿وخاب﴾، أي : خسر وهلك ﴿كل جبار﴾، أي : متكبر عن طاعة الله، وقيل : هو الذي لا يرى فوقه أحداً، وقيل : هو المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه، واختلفوا في قوله تعالى :﴿عنيد﴾ فقال مجاهد : معاند للحق ومجانبه. وقال ابن عباس : هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل : هو المتكبر. وقال قتادة : هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله، وقيل : هو المعجب بما عنده. ولما حكم تعالى على الكافر بالخيبة، ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور : الأوّل : قوله تعالى :
﴿من ورائه﴾، أي : أمامه ﴿جهنم﴾، أي : هو صائر إليها. قال أبو عبيدة : هو من الأضداد وقال الشاعر :
*عسى الكرب الذي أمسيت فيه
** يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً : الموت وراء كل أحد. وقال تعالى :﴿وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً﴾ (الكهف، ٧٩)، أي : أمامهم. وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أم قدامك،
١٩٦
فيصح إطلاق لفظ الوراء على خلف وقدّام. وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد. قال الشاعر : وليس وراء الله للخلق مهرب.
ومعنى الآية على هذا : أن الكافر بعد الخيبة يدخل جهنم.
الأمر الثاني : ما ذكره تعالى بقوله :﴿ويسقى﴾، أي : في جهنم ﴿من ماء صديد﴾ وهو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطاً بالقيح والدم جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب : هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر. فإن قيل : علام عطف ﴿ويسقى﴾ ؟
أجيب : بأنه عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
يتجرّعه﴾
، أي : يتكلف أن يبتلعه مرّة بعد مرّة لمرارته وحرارته ونتنه ﴿ولا يكاد يسيغه﴾، أي : ولا يقدر على ابتلاعه. قال الزمخشري : دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة ؟
كقوله تعالى :﴿لم يكد يراها﴾ (النو، ٤٠)، أي : لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها ؟
فإن قيل : كيف الجمع على هذا الوجه بين ﴿يتجرّعه﴾ و﴿لا يكاد يسيغه﴾ ؟
أجيب بجوابين : أحدهما : أنّ المعنى ولا يسيغ جميعه كأنه يتجرّع البعض وما أساغ الجميع. والثاني : إنّ الدليل الذي ذكر إنما دل على وصول ذلك الشراب إلى جوف ذلك الكافر ؛ لأنّ ذلك ليس بإساغة ؛ لأنّ الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة، وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة.
الأمر الثالث : ما ذكره تعالى بقوله تعالى :﴿ويأتيه الموت﴾، أي : أسبابه المقتضية له من أنواع العذاب ﴿من كل مكان﴾، أي : من سائر الجهات، وقيل : من كل مكان من جسده حتى أصول شعره وإبهام رجله. ﴿وما هو بميت﴾ فيستريح. وقال ابن جريج : تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكان من جوفه فتنفعه الحياة.


الصفحة التالية
Icon