الأمر الرابع : ما ذكره تعالى بقوله تعالى :﴿ومن ورائه﴾، أي : ومن بين يديه بعد ذلك العذاب ﴿عذاب غليظ﴾، أي : شديد كل وقت يستقبله أشدّ مما قبله، وقيل : هو الخلود في النار، وقيل : هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ولما ذكر تعالى أنواع عذابهم بين بعده أنّ سائر أعمالهم تصير باطلة ضائعة، وذلك هو الخسران الشديد بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٢
١٩٧
﴿مثل﴾، أي : صفة ﴿الذين كفروا بربهم أعمالهم﴾، أي : الصالحة كصدقة وصلة رحم وفك أسير، وإقراء ضيف، وبر والد في عدم الانتفاع بها ﴿كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف﴾، أي : شديد هبوب الريح، فجعلته هباء منثوراً لا يقدر عليه كما قال تعالى :﴿لا يقدرون﴾، أي : الكفار يوم الجزاء ﴿مما كسبوا﴾، أي : عملوا في الدنيا ﴿على شيء﴾، أي : لا يجدون لهم ثواباً لفقد شرطه وهو الإيمان. وقرأ نافع (الرياح) بالجمع، والباقون بالإفراد. ﴿ذلك﴾ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون ﴿هو الضلال البعيد﴾، أي : الخسران الكبير لأنّ أعمالهم ضلت وهلكت فلا يرجى عودها.
تنبيه : في ارتفاع قوله تعالى :﴿مثل﴾ أوجه : أحدها : وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله تعالى :﴿أعمالهم كرماد﴾ مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم ؟
فقيل أعمالهم كرماد.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٧
والثاني : وهو مذهب الفراء التقدير : مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه، وهو قوله تعالى :﴿أعمالهم﴾ ومثله قوله تعالى :﴿ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة﴾ (الزمر، ٦٠)
المعنى : ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة.
الثالث : أن يكون التقدير : صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقوله : صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول.
الرابع : أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله :﴿مثل الذين كفروا﴾، والتقدير مثل أعمالهم وقوله تعالى :﴿كرماد﴾ هو الخبر. وقيل : غير ذلك. وقوله تعالى :
﴿ألم تر﴾، أي : تنظر خطاب للنبيّ ﷺ والمراد به أمّته، وقيل : لكل واحد من الكفرة على الالتفات. ﴿أنّ الله خلق السموات﴾ على عظمها وارتفاعها ﴿والأرض﴾ على تباعد أقطارها واتساعها، وقوله تعالى :﴿بالحق﴾، أي : بالحكمة، والوجه الذي يحق أن تخلق عليه متعلق بخلق. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام، ورفع القاف، وخفض الأرض. والباقون بغير ألف بعد الخاء، وفتح اللام والقاف، ونصب الأرض. ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أيها الناس ﴿ويأت﴾ بدلكم ﴿بخلق جديد﴾ أطوع منكم، رتب ذلك على كونه خالق السموات والأرض استدلالاً به عليه، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم قدر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع عليه كما قال تعالى :
﴿وما ذلك على الله بعزيز﴾، أي : بممتنع، فإنه تعالى قادر بذاته، ولا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومن هذا شأنه كان حقيقاً أن يؤمن به، ويعبد رجاء
١٩٨
ثوابه وخوفاً من عقابه يوم الجزاء. ولما ذكر تعالى أصناف عذاب هؤلاء الكفار، وذكر عقبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر كيفية مجادلتهم عند تمسك أتباعهم بهم وكيفية افتضاحهم عندهم بقوله تعالى :
﴿وبرزوا﴾، أي : الخلائق من قبورهم ﴿لله جميعاً﴾ والتعبير فيه وفيما يأتي بالماضي، وإن كان معناه الاستقبال لتحقق وقوعه ؛ لأنّ كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو حق وصدق وكائن لا محالة، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، ونظيره :﴿ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار﴾ (الأعراف، ٤٤)
تنبيه : البروز في اللغة الظهور بعد الاستتار، وهو في حق الله تعالى محال، فلا بدّ من تأويله وهو من وجهين :
الأوّل : أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عن أنفسهم، وعلموا أنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ١٩٧


الصفحة التالية
Icon