أجيب : بأنه تعالى يقول للعبد : إذاحصلت لك النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان، وهما كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً، والمقصود كأنه يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وتقصيرك فلا أقابل تقصيرك، إلا بالتوقير ولا أجازي جزاءك إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن والعاقبة والرحمة. ولما بين الله تعالى بالدلائل المتقدّمة لأن لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا تجوز عبادة غير الله البتة، حكي عن إبراهيم عليه السلام مبالغة في إنكاره عبادة الأوثان بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٤
﴿وإذ﴾، أي : واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ ﴿قال إبراهيم رب﴾، أي : المحسن إليّ بإجابة دعائي ﴿اجعل هذا البلد﴾، أي : مكة ﴿آمناً﴾، أي : ذا أمن، وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله
٢٠٦
حرماً لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه. فإن قيل : ، أي : فرق بين قوله :﴿اجعل هذا بلداً آمناً﴾ (البقرة، ١٢٦)
وبين قوله :﴿اجعل هذا البلد آمناً﴾ (إبراهيم، ٣٥)
بأنّ المسؤول في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني : أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف ويجعل لها تلك الصفة، وهي الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً.
فإن قيل : كيف أجاب الله تعالى دعاءه مع أنّ جماعة من الجبابرة قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها ؟
أجيب : بجوابين : أحدهما : أنّ إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى فلم يقدر أحد على إخراب مكة. فإن قيل : يرد على هذا ما ورد عنه ﷺ أنه قال :"يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" ؟
أجيب : بأنّ قوله تعالى :﴿اجعل هذا البلد﴾ (إبراهيم، ٣٥)
يعني إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا فهو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين، والجواب الثاني : أنّ المراد جعل أهلها آمنين كقوله تعالى :﴿واسأل القرية﴾ (يوسف : ٨٢)، أي : أهلها وهذا الجواب عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله تعالى بقوله :﴿ويتخطف الناس من حولهم﴾ (العنكبوت، ٦٧)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٠٦
وأهل مكة آمنون من ذلك حتى أنّ من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست ؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها ﴿واجنبني﴾، أي : بعدني ﴿وبنيّ أن﴾، أي : عن أن ﴿نعبد الأصنام﴾، أي : اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما الفائدة في قوله :﴿واجنبني﴾ عن عبادة الأصنام ؟
أجيب : بأنه عليه الصلاة والسلام إنما سأل ذلك هضماً لنفسه، وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل : كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه ؟
أجيب : بأنّ المراد من كان موجوداً حال الدعاء، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال عليه السلام في آخر الآية :﴿فمن تبعني فإنه مني﴾ (إبراهيم، ٣٦)
وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى :﴿إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح﴾ (هود، ٤٦)، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام ؟
فقال : ما عبد أحد من بني إسماعيل صنماً، واحتج بقوله تعالى :﴿واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام﴾ (إبراهيم، ٣٥)
وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا : البيت حجر فحينما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر، أي : يطوفون به أسابيع تشبيهاً بالكعبة، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة، وقد تفتح، قال الجوهري : دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت،
٢٠٧
ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي : وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصنم في ذلك. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال :
﴿رب إنهن﴾، أي : الأصنام ﴿أضللن كثيراً من الناس﴾ بعبادتهم لها.