فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه كلمة واحدة أو حرفاً واحداً وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، فإن قيل : فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه ؟
أجيب : بأن جمعهم القرآن في المصحف كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال أصحابنا : وفي هذه الآية دلالة قوية على كون البسملة آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظنّ بالصحابة أنهم زادوا جاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة، وقيل : الضمير في له راجع إلى النبي ﷺ والمعنى : وإنا لمحمد لحافظون ممن أراد به سوءاً فهو كقوله تعالى :﴿والله يعصمك من الناس﴾ (المائدة، ٦٧)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧
ولما أساء الكفار عليه ﷺ في الأول وخاطبوه بالسفاهة وقالوا :﴿إنك لمجنون﴾ (الحجر، ٦)
. وكان عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء قال سبحانه وتعالى تسلية له على وجه رادّ
٢١٩
عليهم :
﴿ولقد أرسلنا من قبلك﴾، أي : رسلاً فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله تعالى :﴿في شيع﴾ أي : فرق ﴿الأوّلين﴾ من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى :﴿حق اليقين﴾ (الواقعة، ٩٥)
سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة المجتمعة المتفقة كلمتهم على مذهب وطريقة. وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه، وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.
﴿وما يأتيهم﴾ عبر بالمضارع على حكاية الحال الماضية، فإن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، والأصل وما كان يأتيهم ﴿من رسول﴾، أي : على، أي : وجه كان ﴿إلا كانوا به﴾ جبلة وطبعاً ﴿يستهزؤون﴾ كاستهزاء قومك بك فصبروا فاصبر كما صبروا.
﴿كذلك﴾، أي : مثل ادخالنا التكذيب في قلوب هؤلاء المستهزئين بالرسل ﴿نسلكه﴾، أي : ندخله ﴿في قلوب المجرمين﴾، أي : كفار مكة المستهزئين.
﴿لا يؤمنون به﴾، أي : بالنبيّ ﷺ وقيل : بالقرآن. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط والرمح في المطعون، ومنه قوله تعالى :﴿ما سلككم في سقر﴾ (الدثر، ٤٢)
وقيل : الضمير في نسلكه يعود للذكر كما أنّ الضمير في به يعود إليه وجملة لا يؤمنون به حال من ذلك الضمير والمعنى على هذا مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً به غير مؤمن به قال البيضاوي : وهذا الاستدلال ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه اه. وما أعدت الضمير عليه في ذلك هو ما قاله ابن الخازن، وجرى عليه الجلال السيوطي وقوله تعالى :﴿وقد خلت سنة الأولين﴾، أي : سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم وعيد شديد لكفار مكة بأنه ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة، وقال الزجاج : قد مضت سنة الله في أن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم.
قال الرازي : وهذا أليق بظاهر اللفظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار وقوله تعالى :
﴿ولو فتحنا عليهم باباً من السماء﴾ الآية هو المراد في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس﴾ (الأنعام، ٧)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧
الآية، أي : الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة فلو أنزلنا الملائكة ﴿فظلوا فيه﴾، أي : فظلت الملائكة ﴿يعرجون﴾، أي : يصعدون في الباب وهم يرونها عياناً.
﴿لقالوا﴾، أي : من عتوّهم في الكفر ﴿إنما سكرت أبصارنا﴾، أي : سدت عن الأبصار بالسحر من السكر ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف أو حيرت من السكر يدل عليه قراءة الباقين بالتشديد. ﴿بل نحن قوم مسحورون﴾، أي : قد سحرنا محمد بذلك، أي : كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات كانشقاق القمر وما جاء به النبيّ ﷺ من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله. وقيل : الضمير في يعرجون للمشركين، أي : فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات وما فيها من العجائب لما آمنوا لعنادهم وكفرهم وقالوا : إنما سحرنا. وقرأ الكسائي بإدغام لام بل في النون والباقون بالإظهار. ولما أجاب الله تعالى عن شبهة منكري النبوّة والقول بالنبوّة مفرع على القول بالتوحيد
٢٢٠


الصفحة التالية
Icon