ودلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال مفتتحاً بحرف التوقع :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١٧
﴿ولقد جعلنا﴾ بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة. ﴿في السماء بروجاً﴾ قال الليث : البروج واحدها برج من بروج الفلك، والبروج هي النجوم الكبار مأخوذة من الظهور يقال : تبرجت المرأة إذا ظهرت وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس والقمر والكواكب السيارة وهي اثنا عشر برجاً الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وهي منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل وله الجدي والدلو. وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرّة وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً. قال ابن عباس في هذه الآية : يريد بروج الشمس والقمر يعني منازلهما وقال عطية : هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال مجاهد : هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق : يريد نجوم هذه البروج. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام. ﴿وزيناها﴾، أي : السماء بالشمس والقمر والنجوم والأشكال والهيئات البهية ﴿للناظرين﴾، أي : المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها ومبدعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوّره.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢١
وحفظناها من كل شيطان رجيم﴾
، أي : مرجوم وقيل : ملعون. قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الله لغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد محمد ﷺ منعوا من السموات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فلما منعوا تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله ﷺ يتلو القرآن فقالوا : والله هذا حدث وقوله تعالى :﴿إلا من استرق السمع﴾ بدل من كل شيطان رجيم. وقيل استثناء منقطع، أي : لكن من استرق السمع واستراق السمع اختلاسه. قال ابن عباس : يريد الخطفة اليسيرة وذلك أنّ الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب كما قال تعالى :﴿فأتبعه شهاب مبين﴾ وهو شعلة من نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب لما فيها من البريق يشبه شهاب النار فلا يخطئ أحداً فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه أو جنبه أو يده حيث يشاء الله. ومنهم من يخبله فيصير غولاً فيضل الناس في البوادي. روى أبو هريرة قال : قال رسول الله ﷺ "إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟
قالوا : الحق وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع" ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض. ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها إلى لسان الساحر أو الكاهن، وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما
٢٢١
ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مئة كذبة، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء. فإن قيل : إذا جاز أن يسمع الشيطان أخبار الغيوب من الملائكة خرج الإخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق لأنّ كل غيب يخبر عنه النبيّ ﷺ قام فيه الاحتمال وحينئذٍ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق. أجيب : بأنا أثبتنا كون محمد ﷺ رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوّته نقطع بأنّ الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيب معجزاً، ولما شرح الله تعالى الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع ؛ النوع الأوّل : قوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢١


الصفحة التالية
Icon