والأرض مددناها} قال ابن عباس : بسطناها على وجه الماء. قال البغوي : يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل : فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة ؟
أجيب : بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات. النوع الثاني : قوله تعالى :﴿وألقينا فيها رواسي﴾، أي : جبالاً ثوابت واحدها راس والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى :﴿وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم﴾ (النحل، ١٥)
قال ابن عباس : لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها، وقيل : إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال. النوع الثالث : قوله تعالى :﴿وأنبتنا فيها﴾ واختلف في عود ضمير فيها فقيل : يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل : إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى :﴿من كل شيء موزون﴾ وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس : ، أي : معلوم. وقال مجاهد : ، أي : مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن : أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن.
﴿وجعلنا لكم فيها﴾، أي : إنعاماً منا وتفضلاً عليكم ﴿معايش﴾ وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. ﴿و﴾ جعلنا لكم ﴿من لستم له برازقين﴾ من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل : صيغة من مختصة بمن يعقل ؟
أجيب : بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال :﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها﴾
٢٢٢
(هود : ٦)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢١
فغلب من يعقل على غيره. حكي أنّ الماء قد قلّ في بعض الأودية والجبال واشتدّ الحرّ قال بعضهم : فرأيت بعض تلك الوحوش رفعت رؤوسها إلى السماء عند اشتداد عطشها قال : فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت وامتلأت الأودية. تنبيه : قيل لا يجوز أن يكون و﴿من لستم له برازقين﴾ (الحجر، ٢٠)
مجروراً عطفاً على الضمير لا يقال : أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كما في قوله تعالى :﴿وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح﴾ (الأحزاب، ٧)
والراجح الجواز كما قرئ قوله تعالى :﴿تساءلون به والأرحام﴾ (النساء، ١)
بالخفض في القراءات السبع وهذا أعظم دليل.
ولما بين سبحانه وتعالى أنه أنبت لهم كل شيء موزون وجعل لهم معايش أشعر بذكر ما هو السبب لذلك فقال تعالى :﴿وإن﴾، أي : وما ﴿من شيء﴾، أي : مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة وهي لا نهاية لها. ﴿إلا عندنا خزائنه﴾، أي : قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عند جدّه قال : في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبرّ والخزائن جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه للحفظ. وقيل : أراد مفاتيح الخزائن، وقيل : المطر لأنه سبب الأرزاق لبني آدم والوحش والطير والدواب ومعنى عندنا، أي : في حكمه تعالى وتصرّفه وأمره وتدبيره ﴿وما ننزله﴾ من يفاع القدرة ﴿إلا بقدر معلوم﴾، أي : على حسب المصالح وقيل : إنّ لكل أرض حدّاً ومقداراً من المطر يقال : لا ينزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله ولما أتم ما أراد من آيتي السماء والأرض وختمه بشمول قدرته لكل شيء أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته بقوله تعالى :