﴿وأرسلنا الرياح﴾ جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجوّ سريع الممر ﴿لواقح﴾، أي : حوامل لأنها تحمل الماء إلى السحاب فهي لاقحة، يقال : ناقة لاقحة إذا حملت الولد. وقال ابن مسعود : يرسل الله تعالى الريح فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمرّ به فتدرّ كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال عبيد بن عمير : يبعث الله تعالى الريح المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاماً ثم يبعث الله اللواقح تلقح الشجر. وعن ابن عباس قال : ما هبت ريح قط إلا جثا النبيّ ﷺ على ركبتيه وقال :"اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها ريحاً". وعن عائشة رضي الله عنها "أنّ رسول الله ﷺ كان إذا عصفت الريح قال : اللهمّ إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به". وقرأ حمزة بالإفراد والباقون بالجمع. ﴿فأنزلنا﴾، أي : بعظمتنا بسبب تلك السحاب التي حملتها الريح ﴿من السماء﴾، أي : الحقيقية أو جهتها أو السحاب لأنّ الأسباب المترقبة يسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد ﴿ماء﴾ وهو جسم مائع سيال به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء ﴿فأسقيناكموه﴾، أي : جعلناه لكم سقياً، يقال : سقيته ماء يشربه و أسقيته، أي : مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد، ونفى سبحانه وتعالى
٢٢٣
عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه بقوله :﴿وما أنتم له﴾، أي : لذلك الماء ﴿بخازنين﴾، أي : ليست خزائنه بأيديكم والخزن وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ فثبت أنّ القادر عليه واحد مختار ومن دلائل التوحيد الإحياء والإماتة كما قال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢١
﴿وإنا لنحن نحيي﴾، أي : لنا هذه الصفة على وجه العظمة فنحيي بها من نشاء من الحيوان بروح البدن ومن الروح بالمعارف ومن النبات بالنمو وإن كان أحدهما حقيقة والآخر مجازاً لأنّ الجمع جائز ﴿ونميت﴾، أي : لنا هذه الصفة فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء. ﴿ونحن الوارثون﴾، أي : الإرث التام إذا مات الخلائق الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء فليس لأحد تصرّف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار فلما ثبت بهذا كمال قدرته وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم قال تعالى :
﴿ولقد علمنا المستقدمين منكم﴾ وهو من قضينا بموته أولاً من لدن آدم فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدّم إليه وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره ﴿ولقد علمنا المستأخرين﴾، أي : الذين نمدّ في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم أو نحوه أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بسيف أو غيره فعرف من ذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار. وقال ابن عباس : أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياءز وقال عكرمة : المستقدمين من خلق الله تعالى والمستأخرين من لم يخلق. وقال الحسن : المستقدمين في الطاعة والخير والمستأخرين المستبطؤون عنه. وقيل : المستقدمين من القرون الأولى والمستأخرين أمّة محمد ﷺ وقيل : المستقدمين في الصفوف والمستأخرين فيها وذلك أنّ النساء كنّ يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أوّل صف النساء لتقرب من الرجال فقال النبيّ ﷺ "خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها".
٢٢٤
تنبيه : في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما : أنّ امرأة حسناء كانت تصلي خلف النبيّ ﷺ فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أوّل صف حتى لا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت. والثاني : أنّ النبيّ ﷺ حرّض على الصف الأوّل فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المسجد لنبيعنّ دورنا ولنشترين دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٤
وإنّ ربك هو يحشرهم﴾
، أي : المستقدمين والمستأخرين للجزاء وتوسط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره وتصدير الجملة بأنّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرّح به بقوله تعالى :﴿إنه حكيم﴾، أي : باهر الحكمة متقن في أفعاله ﴿عليم﴾ وسع علمه كل شيء، ولما استدل سبحانه وتعالى بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدّمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon