﴿إن المتقين﴾ أي : الذين اتقوا الشرك بالله تعالى كما قال جمهور الصحابة والتابعين وهو الصحيح لأنّ المتقي والآتي بالتقوى مرّة واحدة كما أنّ الضارب هو الآتي بالضرب مرّة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرّة واحدة فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً أو قاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى لأنّ الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى، لأنّ كل فرد من أفراد
٢٢٩
الماهية يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية ﴿في جنات﴾ أي : بساتين. قال الرازي : أمّا الجنات فأربعة لقوله تعالى :﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرحمن، ٤٦)
ثم قال :﴿ومن دونهما جنتان﴾ (الرحمن، ٦٢)
فيكون المجموع أربعة. وقوله :﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ (الرخمن، ٤٦)
يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه من الخوف من الله تعالى. وقوله تعالى :﴿ولمن خاف﴾ يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرّة واحدة. وقوله تعالى :﴿وعيون﴾ قال الرازي : يحتمل أن يكون المراد منها ما ذكره الله تعالى في قوله ﴿مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى﴾ (محمد، ١٥)
. ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار. فإن قيل : هل كان واحد من المتقين مختص بعيون أو تجري تلك العيون بعضها إلى بعض ؟
أجيب : بأن كل واحد من الوجهين محتمل فيجوز أن يختص كل واحد بعين ينتفع هو بها، ومن يختص به من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجاتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم يطهرون عن الحقد والحسد. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين والباقون بالكسر وقرأ بكسر التنوين في الوصل أبو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة والباقون بالضم. ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس قال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٩
ادخلوها﴾
أي : يقال لهم ذلك ﴿بسلام﴾ أي : سالمين من كل آفة مرحباً بكم ﴿آمنين﴾ من ذلك دائماً. ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر. قال تعالى :﴿ونزعنا﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ما في صدورهم من غلّ﴾ أي : حقد كامن في القلب ويطلق على الشحناء والعداوة والحسد والبغضاء فكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب. يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد حالة كونهم ﴿إخواناً﴾ أي : متصافين حالة كونهم ﴿على سرر﴾ جمع سرير وهو مجلس رفيع موطأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد على سرر من ذهب مكالة بالزبرجد والدرّ والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية ﴿متقابلين﴾ لا يرى بعضهم قفا بعض فإن التقابل التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أنّ المواجهة أشرف الأحوال. وعند مجاهد رضي الله تعالى عنه تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. تنبيه : ليس المراد الإخوة في النسب بل المراد الإخوة في المودّة والمخالطة كما قال تعالى :﴿الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين﴾ (الزخرف، ٦٧)
. وعن الجنيد أنه قال : ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد. وقوله تعالى :
﴿لا يمسهم فيها نصب﴾ أي : إعياء وتعب وجهد ومشقة استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين وقوله تعالى :﴿وما هم منها بمخرجين﴾ المراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالاً بلا نقصان وفوزاً بلا حرمان. ولما ذكر تعالى أحوال المتقين وأحوال غيرهم أتبع ذلك بقوله تعالى :
﴿نبئ﴾ أي : خبر يا أفضل الخلق ﴿عبادي﴾ إخباراً جليلاً ﴿أني أنا﴾ أي : وحدي ﴿الغفور﴾ أي : للمؤمنين ﴿الرحيم﴾ بهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من عبادي وأني والباقون بالسكون. وأمّا الهمزة في
٢٣٠
نبئ فلم يبدلها إلا حمزة في الوقف فقط، وكذا الهمزة من نبئهم ونقل عن حمزة كسر الهاء في الوقف.
﴿وأنّ عذابي﴾ أي : وحدي للعصاة ﴿هو العذاب الأليم﴾ أي : المؤلم. تنبيه : في هذه الآية لطائف : الأولى أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه وهذا تشريف عظيم ألا ترى أنه قال لنبيه محمد ﷺ ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً﴾ (الإسراء، ١)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٩


الصفحة التالية
Icon