الثانية : أنه تعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيدات بألفاظ ثلاث أوّلها : قوله تعالى :﴿أني﴾. ثانيها : قوله :﴿أنا﴾. ثالثها : إدخال حرف الألف واللام على قوله تعالى :﴿الغفور الرحيم﴾. ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال :﴿وأن عذابي هو العذاب الأليم﴾. الثالثة : أنه أمر رسوله ﷺ أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. والرابعة : أنه لما قال :﴿نبئ عبادي﴾ كان معناه نبئ كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع كذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك منها عنده تسعة وتسعين، وأرسل في خلقه رحمة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة. ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار". وعن عبادة رضي الله تعالى عنه قال بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه قال :"لو يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لجمع نفسه إلى قتلها". وعنه ﷺ أنه مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال :"أتضحكون وقد ذكر الجنة والنار نبى أيديكم فنزل ﴿بنئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم﴾". ولما بالغ تعالى في تقرير النبوّة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر تعالى عقبه أحوال القيامة ووصف الأشقياء والسعداء أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها مرغباً في العبادة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ومحذراً عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٢٩
﴿ونبئهم﴾ أي : خبّر يا سيد المرسلين عبادي ﴿عن ضيف إبراهيم﴾ وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل عليه السلام. فإن قيل : الضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى ؟
أجيب : بأنّ هؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف فهو من دلالة التضمن وقيل أيضاً : إنّ من يدخل دار إنسان ويلتجئ إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل.
﴿إذ دخلوا عليه﴾ أي : إبراهيم وكان يكنى أبا الضيفان كان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد ﴿فقالوا سلاما﴾ أي : نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً ﴿قال﴾ إبراهيم عليه السلام بلسان الحال أو المقال ﴿إنا﴾ أي : أنا ومن عندي ﴿منكم وجلون﴾ أي : خائفون وكان خوفهم لامتناعهم من الأكل أو لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
٢٣١
﴿قالوا لا توجل﴾ أي : لا تخف ﴿إنا﴾ رسل ربك ﴿نبشرك بغلام﴾ أي : ولد ذكر في غاية القوّة ليس كأولاد الشيوخ ضعيفاً. وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الباء وكسر الشين مشدّدة ﴿عليم﴾ أي : ذي علم كثير هو إسحاق عليه السلام كما ذكر في هود وتقدّم ذكر القصة هناك بأسرها ﴿قال﴾ إبراهيم عليه السلام
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣١
أبشرتموني﴾ أي : بالولد وقوله :﴿على أن مسني الكبر﴾ حال، أي : مع مسه إياي. فإن قيل : كيف قال ﴿فبم﴾ أي : فبأيّ شيء ﴿تبشرون﴾ أي : بينوا لي ذلك بياناً شافياً مع أنهم قد بينوا ما بشروا به وما فائدة هذا الاستفهام ؟
أجيب : بأنه أراد أن يعرف أنّ الله تعالى هل يعطيه الولد مع بقائه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أنّ العادة جارية بأنه لا يحصل في حالة الشيخوخة التامّة، وإنما يحصل في حال الشباب أو أنه استفهام تعجب ويدل لذلك قولهم :
﴿قالوا بشرناك بالحق﴾ قال ابن عباس : يريدون بما قضاه الله تعالى والمعنى أنّ الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحاق ويخرج من صلب إسحاق ذرية مثل ما أخرج من صلب آدم وقولهم :﴿فلا تكن﴾ أي : بسبب تبشيرنا ﴿من القانطين﴾ أي : الآيسين، نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط ونهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كونه فاعلاً للمنهي عنه، كما في قوله تعالى :﴿ولا تطع الكافرين والمنافقين﴾ (الأحزاب، ١)
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه
﴿قال ومن يقنط﴾ أي : ييأس من هذا اليأس. ﴿من رحمة ربه﴾ أي : الذي لم يزل إحسانه عليه ﴿إلا الضالون﴾ أي : المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون والباقون بفتحها ولما تحقق عليه السلام البشرى ورأى إتيانهم مختفين على غير الصفة التي يأتي عليها الملك للوحي وكان هو وغيره من العارفين بالله عالمين بأنه ما ينزل الملك إلا بالحق كان ذلك سبباً لأن يسألهم عن أمرهم ليزول وجله كله ولذلك