﴿قال﴾ عليه السلام ﴿فما﴾ بفاء السبب ﴿خطبكم﴾ أي : شأنكم. قال أبو حيان : والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد اه. وقال الرماني : إنه الأمر الجليل. ﴿أيها المرسلون﴾ فإنكم ما جئتم إلا لأمر عظيم يكون فصلاً بين هالك وناج.
﴿قالوا إنا أرسلنا﴾ أي : أرسلنا العزيز الحكيم الذي أنت أعرف الناس في هذا الزمان به ﴿إلى﴾ إهلاك ﴿قوم﴾ أي : ذوي منعة ﴿مجرمين﴾ أي : كافرين وهم قوم لوط وقوله تعالى :
﴿إلا آل لوط﴾ فيه وجهان أحدهما : أنه استثناء متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ويكون معنى قوله تعالى :﴿إنا لمنجوهم أجمعين﴾ أي : لإيمانهم استئناف إخبار بنجاتهم لكونهم لم يجرموا أو يكون الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لا هلاك أولئك وإنجاء هؤلاء. والثاني : أنه استثناء منقطع لأنّ آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة فيكون قوله تعالى :﴿إنا لمنجوهم أجمعين﴾ جرى مجرى خبر لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط منجوهم وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣١
إلا امرأته﴾ استثناء من آل لوط أو من ضميرهم على الأوّل وعلى الثاني لا
٢٣٢
يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل ﴿إنا لمنجوهم﴾ اعتراضاً وقوله تعالى :
﴿قدّرنا﴾ قرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد ﴿إنها لمن الغابرين﴾ أي : من الباقين في العذاب لكفرها.
تنبيه : معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال : قدر هذا الشيء لهذا، أي : اجعله على مقداره وقدّر الله تعالى الأقوات، أي : جعلها على مقدار الكفاية ويفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله تعالى عليه وقدره عليه، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل : معنى قدّرنا كتبنا. وقال الزجاج : دبرنا. فإن قيل : لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عز وجلّ ؟
أجيب : بأنهم إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما تقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا هنا. ولما بشر الملائكة عليهم السلام إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد إبراهيم عليه السلام إلى لوط وآله وهذه هي القصة الثانية المذكورة في هذه السورة قال تعالى :
﴿فلما جاء آل لوط المرسلون﴾ ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط واحدة منهما مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين وكذا ﴿وجاء أهل المدينة﴾ (الحجر، ٦٧)
﴿قال﴾ لهم ﴿إنكم قوم منكرون﴾ لأنهم دخلوا عليه هجماً فاستنكرهم وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه، ولأجل أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليهم بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. وقيل : إنّ النكرة ضدّ المعرفة فقوله عليه السلام ﴿إنكم قوم منكرون﴾ أي : لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام أنتم، ولأيّ غرض دخلتم عليّ فعند ذلك.
﴿قالوا﴾ أي : الملائكة ﴿بل جئناك بما﴾ أي : بالعذاب الذي ﴿كانوا﴾ أي : قومك ﴿فيه يمترون﴾ أي : يشكون في نزوله بهم والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه من حيث أنه لا يرجع إلى نفسه فيما هو عليه ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم :﴿وأتيناك بالحق﴾ أي : باليقين الذي لا يشك فيه ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم :
﴿وإنا لصادقون﴾ أي : فيما أخبرناك به ﴿فأسر بأهلك﴾ أي : فاذهب بهم في الليل ﴿بقطع من الليل﴾ أي : في طائفة من الليل وقيل : هي آخره، قال الشاعر :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣١
افتحي الباب وانظري في النجوم ** كم علينا من قطع ليل بهيم
كأنه طال عليه الليل فخاطب ضجيعته بذلك أو كان يحب طول الليل للوصال. وقرأ نافع وابن كثير بوصل همزة فأسر بعد الفاء من السرى، والباقون بالقطع وهما بمعنى. ﴿واتبع أدبارهم﴾ أي : وكن على آثار أهلك وسر خلفهم وتطلع على أحوالهم ﴿ولا يلتفت منكم أحد﴾ أي : لئلا يرى أليم ما نزل بهم من البلاء، وقيل : جعل ترك الإلتفات علامة لمن ينجو من آل لوط ﴿وامضوا حيث
٢٣٣
تؤمرون﴾ أي : إلى المكان الذي أمركم الله بالمضيّ إليه، قال ابن عباس : هو الشأم. وقال الفضيل : حيث يقول لكم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط، وقيل : إلى الأردن، وقيل : إلى مصر. تنبيه : حيث ههنا على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ولإبهامها تعدى إليها الفعل من غير واسطة.
﴿وقضينا﴾ أي : وأوحينا ﴿إليه﴾ ولما ضمن قضينا معنى الإيحاء تعدى بإلى ومثله ﴿وقضينا إلى بني إسرائيل﴾ (الإسراء، ٤)