﴿وإن﴾ مخففة من الثقيلة، أي : وإنه ﴿كان﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿أصحاب الأيكة﴾ وهم قوم شعيب عليه السلام وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء والأيكة الشجر المتكاثف وقيل الشجر الملتف وقال ابن عباس : هي شجر المقل. وقال الكلبي : الأيكة الغيضة، أي : غيضة شجر بقرب مدين. ﴿لظالمين﴾ أي : عريقين في الظلم بتكذيبهم شعيباً عليه السلام.
٢٣٥
﴿فانتقمنا منهم﴾ أي : بسبب ذلك قال المفسرون : اشتدّ الحرّ فيهم أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله تعالى :﴿وإنهما﴾ فيه قولان : الأوّل : أن المراد قرى قوم لوط والأيكة. والقول الثاني : أنّ الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء ضميرهما ﴿لبإمامٍ﴾ أي : طريق ﴿مبين﴾ أي : واضح والإمام اسم لما يؤتم به. قال الفراء : إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع وقال ابن قتيبة : لأنّ المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده ثم ذكر تعالى القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٤
﴿ولقد كذب أصحاب الحجر﴾ وهم ثمود قوم صالح عليه السلام وديارهم بين المدينة الشريفة والشام ﴿المرسلين﴾ أي : كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك لأنّ الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء ثم أتبع ذلك قوله تعالى :﴿وآتيناهم﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة على يد رسولهم صالح عليه السلام ﴿آياتنا﴾ أي : آيات الكتاب المنزل على نبيهم أو معجزات كالناقة وكان فيها آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظيم خلقها وقرب ولادتها وغزارة لبنها وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لنبيهم صالح عليه السلام لأنه مرسل من ربهم إليهم بهذه الآيات ﴿فكانوا عنها﴾ أي : الآيات ﴿معرضين﴾ أي : تاركيها غير ملتفتين إليها لا يتفكرون فيها ثم أخبر تعالى عنهم أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشدّ منهم فقال تعالى :
﴿وكانوا ينحتون﴾ والنحت قلع جزء بعد جزء من الجسم على سبيل المسح ﴿من الجبال﴾ أي : التي تقدّم أنا جعلناها رواسي. ﴿بيوتاً آمنين﴾ عليها من الإنهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص برفع الباء والباقون بكسرها. ﴿فأخذتهم الصيحة﴾ أي : صيحة العذاب ﴿مصبحين﴾ أي : وقت الصبح.
﴿فما أغنى﴾ أي : ما دفع ﴿عنهم﴾ الضرّ والبلاء ﴿ما كانوا يكسبون﴾ أي : يعملون من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مررنا مع رسول الله ﷺ على الحجر فقال لنا :"لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله ﷺ راحلته فأسرع حتى خلفها". ولما ذكر تعالى هذه القصص تسلية لنبيه ﷺ فإنه إذا سمع أنّ الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله بمثل هذه المعاملات سهل تحمل تلك السفاهة قال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٦
وما خلقنا السموات والأرض﴾ أي : على ما لها من العلوّ والسعة والأرض على ما لها من المنافع والغرائب ﴿وما بينهما﴾ من هؤلاء المشركين المكذبين وعذابهم ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك ﴿إلا بالحق﴾ أي : إلا خلقاً ملتبساً بالحق فيتفكر فيه من وفقه الله تعالى ليعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى ﴿وإن الساعة﴾ أي : القيامة ﴿لآتية﴾ لا محالة فيجازي الله تعالى كل أحد بعمله.
٢٣٦
ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبّه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم بقوله تعالى :
﴿فاصفح الصفح الجميل﴾ أي : أعرض عنهم إعراضاً لا جزع فيه ولا تعجل بالإنتقام منهم وهذا منسوخ بآية السيف. قال الرازي : وهو بعيد لأنّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والصفو والصفح فكيف يصير منسوخاً اه. والأوّل جرى عليه البغوي وجماعة من المفسرين ثم علل تعالى هذا الأمر بقوله :
﴿إنّ ربك﴾ أي : المحسن إليك الآمر لك بهذا ﴿هو﴾ أي : وحده ﴿الخلاّق﴾ أي : المتكرر منه هذا الفعل ﴿العليم﴾ أي : البالغ العلم بكل المعلومات فليست أقوالهم وأفعالهم إلا منه سبحانه وتعالى لأنه خالقها وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك فإنه نعم المولى ونعم النصير. ولما صبره الله تعالى على أذى قومه وأمره أن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى أفضل خلقه بها بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٦