الوصف واصبر نفسك معهم وارفق بهم. ولما أمر الله تعالى رسوله ﷺ بالزهد في الدنيا والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم بقوله تعالى :﴿وقل إني أنا النذير﴾ من عذاب الله أن ينزل عليكم إن لم تؤمنوا. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿المبين﴾ أي : البين الإنذار وقوله تعالى :﴿كما أنزلنا﴾ أي : العذاب ﴿على المقتسمين﴾ قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به. وقال عكرمة : إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد : هذه السورة لي. وقال آخر : هذه السورة لي، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به. وقال مجاهد : أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر بعضهم ببعضها. وقال قتادة : أراد بالمقتسمين كفار قريش قال : سموا بذلك لأنّ أقوالهم تقسمت في القرآن فقال بعضهم : إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين. وقال ابن السائب : سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا طرق مكة، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة بعث رهطاً من أهل مكة قيل : ستة عشر، وقيل : أربعين. وقال : انطلقوا فتفرّقوا على طرق مكة حيث يمر بكم أهل الموسم فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم : إنه مجنون وليقل بعضكم : إنه كاهن وليقل بعضكم : إنه ساحر وليقل بعضكم : إنه شاعر فذهبوا وقعدوا على طرق مكة يقولون ذلك لمن يمرّ بهم من حجاج العرب وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام نصبوه حكماً فإذا جاؤوا سألوا عما قال أولئك فيقول : صدقوا فأهلكهم الله تعالى يوم بدر.
وقوله تعالى :﴿الذين جعلوا القرآن عضين﴾ نعت للمقتسمين وقال ابن عباس : هم اليهود والنصارى جزؤوا القرآن أجزاء فآمنوا بما وافق التوراة والإنجيل وكفروا بالباقي. وقال مجاهد : قسموا كتاب الله ففرقوه وبدّدوه، وقيل : كانوا يستهزؤون به فيقول بعضهم : سورة البقرة لي، ويقول بعضهم : سورة آل عمران لي. وقيل : اقتسموا القرآن فقال بعضهم : سحر. وقال بعضهم : شعر. وقال بعضهم : كذب. وقال بعضهم : أساطير الأوّلين. وقيل : هم أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أنّ القرآن ما يقرؤونه من كتبهم فيكون ذلك تسلية لرسول الله ﷺ عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم سحر وشعر وأساطير الأوّلين بأنّ غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٣٨
تنبيه : عضين جمع عضة وهي الفرقة والعضين الفرق وتقدّم معنى جعلهم القرآن كذلك وقيل : العضة السحر بلغة قريش يقولون هو عاضه وهي عاضهة. وفي الحديث :"لعن رسول الله ﷺ العاضهة والمستعضهة"، أي : الساحرة والمستسحرة وقيل : هو من العضه وهو الكذب والبهتان، يقال : عضهه عضها وعضيهة، أي : رماه بالبهتان وقيل : جمع عضو مأخوذ من قولهم : عضيت الشيء أعضيه إذا فرقته وجعلته أجزاء وذلك أنهم جعلوا القرآن أعضاء مفرقة فقال بعضهم : سحر. وقال بعضهم : أساطير الأوّلين. ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه على أنه يسأل هؤلاء المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين بقوله تعالى :﴿فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون﴾ فيكون الضمير عائداً على المقتسمين لأنه الأقرب ويحتمل أن يعود على جميع المكلفين لأنّ ذكرهم تقدّم في قوله تعالى :﴿وقل إني أنا النذير المبين﴾ (الحجر، ٨٩)
أي : لجميع الخلق قال جماعة من المفسرين : يسألون
٢٣٩
عن لا إله إلا الله. وقال أبو العالية : يسألون عما كانوا يعبدون وما أجابوا به المرسلين. فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى :﴿فوربك لنسألنهم أجمعين﴾ وبين قوله تعالى :﴿فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان﴾ (الرحمن، ٣٩)
أجيب : بأنّ النفي ينصرف إلى بعض الأوقات والاثبات إلى وقت آخر لأنّ يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف يسألون في بعضها ولا يسألون في بعض آخر. ونظيره قوله تعالى :﴿هذا يوم لا ينطقون﴾ (المرسلات، ٣٥)
. وقال في آية أخرى :﴿ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون﴾ (الزمر، ٣١)
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿فاصدع﴾ أي : اجهر بعلو وشدّة فارقاً بين الحق والباطل. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد الساكنة قبل الدال والباقون بالصاد الخالصة. ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿تؤمر﴾ به. أمر النبيّ ﷺ في هذه الآية بإظهار الدعوة. روي عن عبد الله بن عبيدة قال : كان مستخفياً حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه. ﴿وأعرض﴾ أي : إعراض من لا يبالي ﴿عن المشركين﴾ بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. قال بعض المفسرين كالبغوي : وهذا منسوخ بآية القتال، قال الرازي : وهو ضعيف لأنّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً. ولما كان هذا الصدع في غاية الشدّة عليه ﷺ لكثرة ما يلقى عليه من الأذى خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله معللاً له :