ثم ذكر سبحانه وتعالى أشياء تدلّ على أنه الفاعل المختار بقوله تعالى :﴿وسخر لكم﴾ أي : أيها الناس لإصلاح أحوالكم ﴿الليل﴾ للسكنى ﴿والنهار﴾ للمعاش. ثم ذكر آية النهار فقال :﴿والشمس﴾ أي : لمنافع اختصاصها ثم آية الليل فقال :﴿والقمر﴾ لأمور علقها به ﴿والنجوم﴾ أي : الآيات نصبها لها. ثم نبه على تغيرها بقوله تعالى :﴿مسخرات﴾ أي : بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها ﴿بأمره﴾ أي : بإرادته سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم دلالة على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار ولو شاء تعالى لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب. وقرأ ابن عامر برفع الأربع وهي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات على الابتداء والخبر ووافقه حفص في الاثنين الأخيرين والنجوم مسخرات لا غير والباقون بالنصب عطفاً على ما قبله في الثلاثة الأول وفي الرابع وهو مسخرات على الحال. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأشياء وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم ذلك بقوله :﴿إنّ في ذلك﴾ أي : التسخير العظيم ﴿لآيات﴾ أي : دلالات متعدّدة كثيرة عظيمة ﴿لقوم يعقلون﴾ أي : يتدبرون فيعلمون أنّ جميع الخلق تحت قدره وقدرته وتسخيره لما أراده منهم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٧
وقوله تعالى :﴿وما ذرأ﴾ أي : خلق ﴿لكم في الأرض﴾ عطف على الليل، أي : وسخر لكم
٢٤٨
ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. وقيل : إنه في موضع نصب بفعل محذوف، أي : وخلق هكذا قدّره أبو البقاء وكأنه استبعد تسلط سخر على ذلك فقدّر فعلاً لائقاً. وقوله تعالى :﴿مختلفاً﴾ حل منه. وقوله تعالى :﴿ألوانه﴾ أي : في الخلقة والهيئة والكيفية فاعل به ﴿إنّ في ذلك لآية لقوم يذّكّرون﴾ أي : يتعظون. تنبيه : ختم تعالى الآية الأولى بالتفكر لأنّ ما فيها يحتاج إلى تأمّل ونظر، وختم الثانية بالعقل لأنّ مدار ما تقدّم عليه وختم الثالثة بالتذكر لأنه نتيجة ما تقدّم وجمع الآيات في الثانية دون الأولى والثالثة لأن ما نيط بها أكثر ولذلك ذكر معها العقل. ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإله أولاً بأجرام السموات والأرض وثانياً ببدن الإنسان وثالثاً بعجائب خلقة الحيوان ورابعاً بعجائب النبات ذكر خامساً عجائب العناصر وبدأ بالاستدلال بعنصر الماء بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٧
وهو أي : لا غيره. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها ﴿الذي سخر البحر﴾ أي : ذلله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكوّن الجواهر وغير ذلك قال علماء الهيئة : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء فذاك هو البحر المحيط وجعل في هذا الربع المسكون سبعة أبحر قال تعالى :﴿والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر﴾ (لقمان، ٢٧)
والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار فمن تسخيرها للخلق ما مر ومنه جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها بالركوب وبالغوص وبغير ذلك فمنافع البحار كثيرة وذكر سبحانه وتعالى منها هنا ثلاثة منافع الأولى قوله تعالى :﴿لتأكلوا منه﴾ أي : بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك. ﴿لحماً طرياً﴾ لا تجد أنعم منه ولا ألين وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً ففي ذلك دلالة على كمال قدرته تعالى وذلك أن السمك لو كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح اللحم الطري في غاية العذوبة علم أنه يخلق الله وقدرته لا بحسب الطبع وعلم بذلك أنّ الله تعالى قادر على إخراج الضدّ من الضدّ. المنفعة الثانية : قوله تعالى :﴿وتستخرجوا منه﴾ أي : بجهدكم في الغوص وما يتبعه ﴿حلية﴾ أي : اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى :﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن، ٢٢)
. ﴿تلبسونها﴾ أي : نساؤكم وهنّ بعضكم فكأن اللابس أنتم ولأنّ زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة : قوله تعالى :﴿وترى الفلك﴾ أي : السفن ﴿مواخر﴾ أي : تمخر الماء، أي : تشقه بجريها ﴿فيه﴾ أي : مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر بريح واحدة. وقال مجاهد : تمخر الريح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت. وقال الحسن : مواخر يعني مملوءة متاعاً. وقوله تعالى :﴿ولتبتغوا﴾ أي : لتطلبوا عطف على تأكلوا وما بينهما إعتراض. وقيل : عطف على محذوف تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ﴿من فضله﴾ أي : من سعة رزقه بركوبها للتجارة وللوصول إلى البلدن الشاسعة ﴿ولعلكم تشكرون﴾ الله على هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٤٩


الصفحة التالية
Icon