﴿والذين تدعون﴾ أي : تعبدون ﴿من دون الله﴾ أي : الأصنام وتعتقدون أنها آلهة وقرأ عاصم بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ﴿لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون﴾ أي : يصوّرون من الحجارة وغيرها. فإن قيل : قوله تعالى في الآية المتقدّمة ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق﴾ يدلّ على أنّ هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا هو المعنى المذكور في تلك الآية المذكورة فما فائدة هذا التكرار ؟
أجيب : بأنّ فائدته أنّ المعنى المذكور في الآية المتقدّمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون كغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار فكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً، ثم بيّن ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة كغيرها.
الصفة الثانية قوله تعالى :﴿أموات﴾ أي : جمادات لا روح لها ﴿غير أحياء﴾ إذ الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت. فإن قيل : علم من قوله : أموات أنها غير أحياء فما الفائدة في ذكره ؟
أجيب : بأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً وأجساد الحيوانات التي تبعث بعد موتها وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة وذلك أعرق في موتها. وقيل : ذكر للتأكيد لأنّ الكلام مع الكفار الذي يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغبي فقد يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه الإعلام بكون المخاطب في غاية الغباوة في أنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة. الصفة الثالثة قوله تعالى :﴿وما يشعرون﴾ أي : الأصنام ﴿أيان﴾ أي : وقت ﴿يبعثون﴾ أي : وما تعلم هؤلاء الآلهة متي تبعث الأحياء تهكماً بحالها لأنّ شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حيّ إلا الحيّ القيوم سبحانه وتعالى. وقيل : الضمير راجع للأصنام. قال ابن عباس : إنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وقيل : المراد بقوله تعالى :﴿والذين تدعون من دون الله﴾ الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله تعالى : إنهم
٢٥٢
أموات، أي : لا بد لهم من الموت غير أحياء، أي : باقية حياتهم وما يشعرون، أي : لا علم لهم بوقت بعثهم. ولما زيف سبحانه وتعالى طريقة عبدة الأصنام وبيّن فساد مذهبهم قال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥١
إلهكم﴾
أي : أيها الخلق جميعاً المعبود بحق ﴿إله﴾ أي : متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أوان وكل زمان وكل مكان ﴿واحد﴾ لا يقبل التعدّد الذي هو مثال النقص بوجه من الوجوه لأنّ التعدّد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية. ﴿فالذين﴾ أي : فتسبب عن هذا أنّ الذين ﴿لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي : دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة ﴿قلوبهم منكرة﴾ أي : جاحدة للوحدانية ﴿وهم﴾ أي : والحال أنهم بسبب إنكار ذلك ﴿مستكبرون﴾ أي : متكبرون عن الإيمان بها ﴿لا جرم﴾ أي : حقاً ﴿أن الله يعلم﴾ علماً غيبياً وشاهدياً ﴿ما يسرون﴾ أي : ما يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس ﴿وما يعلنون﴾ أي : يظهرون فيجاز يهم ذلك. ولما كان في ذلك معنى التهديد علل ذلك بقوله تعالى :﴿إنه﴾ أي : العالم بالسر والعلن ﴿لا يحب المستكبرين﴾ أي : على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول ﷺ ومعنى عدم محبتهم أنه يعاقبهم.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ ﷺ قال :"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل : يا رسول الله، إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ؟
قال : إنّ الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس" ومعنى بطر الحق أنه يستكبر عند سماع الحق فلا يقبله ومعنى غمص الناس استنقاصهم وازدراؤهم. ولما بالغ سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام قال تعالى عاطفاً على قلوبهم منكرة :﴿وإذا قيل لهم﴾ أي : لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وقوله تعالى :﴿ما﴾ استفهامية و﴿ذا﴾ موصولة، أي : ما الذي ﴿أنزل ربكم﴾ على محمد ﷺ واختلف في قائل هذا القول فقيل : كلام بعضهم لبعض، وقيل : قول المسلمين لهم، وقيل : قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله ﷺ إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ ﴿قالوا﴾ مكابرين في إنزال القرآن هو ﴿أساطير﴾ أي : آكاذيب ﴿الأوّلين﴾ مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضتهم أقصر سورة منه مع علمهم بأنهم أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدّم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه. فإن قيل : هذا كلام متناقض لأنه لا يكون منزلاً من ربهم وأساطير ؟
أجيب : بأنهم قالوه على سبيل السخرية كقوله :﴿إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون﴾ (الشعراء، ٢٧)


الصفحة التالية
Icon