أم} أي : بل ﴿يقولون افتراه﴾ أي : اختلقه محمد، ومعنى الهمزة فيه للإنكار ﴿قل﴾ أي : قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون ﴿فأتوا بسورة مثله﴾ في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، فأنتم عرب مثله في البلاغة والفطنة. فإن قيل : هل يتناول ذلك جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار ؟
أجيب : بأنّ هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فيكون المراد مثل هذه السورة ؛ لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا أجاب الرازي، والأولى التناول لجميع السور ؛ فإنهم لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة. فإن قيل : لم قال في البقرة ﴿بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣) وهنا ﴿بسورة مثله﴾ ؟
أجيب : بأنه ﷺ لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ لأحد فقيل في سورة البقرة :﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ بناء على أنّ الضمير يرجع للنبيّ ﷺ أي : فليأت إنسان يساوي محمداً ﷺ في عدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز، فهذا لا يدل على أنّ السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد ﷺ في عدم التعلم والتتلمذ معجز. ثم بيّن تعالى في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجزة فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور وهو المراد من قوله تعالى :﴿وادعوا من استطعتم﴾ أي : فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به ﴿من دون الله﴾ أي : غيره ؛ فإنه تعالى وحده قادر على ذلك ﴿إن كنتم صادقين﴾ أي : في أني أتيت به من عندي ؛ لأنَّ العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر.
تنبيه : مراتب تحدّي رسول الله ﷺ بالقرآن ستة : أوّلها : أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى :﴿قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً﴾ (الإسراء، ٨٨). ثانيها : أنه تحدّاهم بعشر سور فقال تعالى :﴿فأتوا بعشر سور مثله مفتريات﴾ (هود، ٣٢). ثالثها : أنه تحدّاهم بسورة واحدة كما قال تعالى :﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة، ٢٣). رابعها : أنه تحدّاهم بحديث مثله. خامسها : أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله ﷺ في عدم التلمذة والتعلم، ثم في هذه السورة طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي : إنسان سواء تعلم العلوم أم لم يتعلمها. سادسها : أنّ في المراتب المتقدّمة تحدي واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الاتيان بهذه المعارضة، كما قال تعالى :﴿وادعوا من استطعتم من دون الله﴾ وههنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أنّ القرآن معجز، ثم إنَّ الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن فقال تعالى :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢١
بل كذبوا﴾
أي : أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك ﴿بما لم يحيطوا بعلمه﴾ أي : القرآن أوّل ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم،
٢٣
فهو من باب : مَنْ جَهِلَ شيئاً عاداه، والإحاطة إدارة ما هو كالحائط حول الشيء وإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه ﴿ولما يأتهم﴾ أي : إلى زمن تكذيبهم ﴿تأويله﴾ أي : تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب وعاقبة ما فيه من الوعيد حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب، ومعنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرّر عليهم التحدي، فجربوا عقولهم في معارضته فصغرت وضعفت دونها، ومع هذا لم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً ﴿كذلك﴾ أي : مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبر المعجزة ﴿كذب الذين من قبلهم﴾ أي : من كفار الأمم الماضية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم ﴿فانظر﴾ يا محمد ﴿كيف كان عاقبة الظالمين﴾ بتكذيب الرسل، أي : آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك يهلك من كذبك من قومك، وفي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس، والمعنى : فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم، فاحذر أن تفعل مثل فعله.
﴿ومنهم﴾ أي : من قومك يا محمد، ﴿من يؤمن به﴾ أي : القرآن، أي : يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب ﴿ومنهم من لا يؤمن به﴾ في نفسه لغباوته وقلة تدبره، أو منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويبدله بالإيمان، ومنهم من يصر ويستمرّ على الكفر، وإنما فسرت هذه الآية بهذين التأويلين ؛ لأنّ كلمة يؤمن تصلح للحال والاستقبال ﴿وربك أعلم بالمفسدين﴾ أي : المعاندين على التفسير الأوّل، والمصرين على التفسير الثاني، وفي ذلك تهديد لهم.


الصفحة التالية
Icon