هل ينظرون إلاأن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وتقدّم توجيه ذلك ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ أي : يوم القيامة وقيل : العذاب. وقيل : إنهم طلبوا من النبيّ ﷺ أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال تعالى :﴿هل ينظرون﴾ في التصديق بنبوّتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك. وعلى كلا التقديرين، فقد قال تعالى :﴿كذلك﴾ أي : مثل ما ﴿فعل﴾ هؤلاء هذا الفعل البعيد الشنيع فعل ﴿الذين من قبلهم﴾ من الأمم السالفة، كذبوا رسلهم فأهلكوا ﴿وما ظلمهم الله﴾ باهلاكهم بغير ذنب. ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ بكفرهم وتكذيبهم للرسل فاستوجبوا ما نزل بهم ﴿فأصابهم﴾ أي : فتسب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم ﴿سيئات﴾ أي : عقوبات أو جزاء سيئات ﴿ما عملوا وحاق﴾ أي : نزل ﴿بهم ما كانوا به يستهزؤون﴾ تكبراً عن قبول الحق فحاق بهم جزاؤه، والحيق لا يستعمل إلا في الشر. وقرأ حاق حمزة بالإمالة والباقون بالفتح.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٤
٢٥٧
﴿وقال الذين أشركوا﴾ للنبيّ ﷺ استهزاء ومنعاً للبعثة والتكليف ﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا﴾ لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهو اعتقاد باطل، فلذلك استحقوا عليه الذم والوعيد ثم قالوا لهم :﴿ولا حرّمنا من دونه من شيء﴾ أي : من السوائب والبحائر والحامي فهو راض به وبمشيئته وحينئذ فلا فائدة في مجيئك وفي إرسالك وهذا عين ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله تعالى :﴿سيقول الذين أشركوا لو شاء الله﴾ (الأنعام، ١٤٨)
الآية. قال الله تعالى :﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ أي : من تقدّم هؤلاء من الكفار من الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية ففي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ وكذا في قوله تعالى :﴿فهل على الرسل إلا البلاغ﴾ أي : الإبلاغ. ﴿المبين﴾ أي : البين فليس عليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧
ثم بين تعالى أنّ البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سبباً لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضرّ المزاج المنحرف ويفنيه بقوله تعالى :﴿ولقد﴾ أي : والله لقد ﴿بعثنا﴾ أي : بما لنا من العظمة التي من اعترض عليها قصم. ﴿في كل أمّة﴾ من الأمم الذين من قبلكم ﴿رسولاً﴾ أي : كما بعثنا فيكم محمداً ﷺ رسولاً. ﴿أن اعبدوا الله﴾ أي : الملك الأعلى وحده. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون في الوصل والباقون بالضم. ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾ أي : الأوثان أن تعبدوها ﴿فمنهم من هدى الله﴾ أي : وفقهم للإيمان بإرشاده ﴿ومنهم من حقت﴾ أي : وجبت ﴿عليه الضلالة﴾ أي : في علم الله تعالى فلم ينفعهم ولم يرد هداهم. تنبيه : في هذه الآية أبين دليل على أنّ الهادي والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه فيما حكم به لسابق علمه، ثم التفت سبحانه وتعالى إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال تعالى :﴿فسيروا﴾ أي : فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من أخبار الرسل فسيروا ﴿في الأرض﴾ أي : جنسها ﴿فانظروا﴾ أي : إذا سرتم ومررتم بديار
٢٥٨
المكذبين وآثارهم، ثم أشار تعالى بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال :﴿كيف كان عاقبة﴾ أي : آخر أمر ﴿المكذبين﴾ أي : من عاد ومن بعدهم من الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم لعلكم تعتبرون. ولما كان من المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم محمد ﷺ فقال مسلياً له :
﴿إن تحرص على هداهم﴾ فتطلبه بغاية جدّك واجتهادك وقد أضلهم الله تعالى لا تقدر على ذلك ثم قال تعالى :﴿فإنّ الله لا يهدي من يضلّ﴾ أي : من يرد ضلاله وهو معين لمن حقت عليه الضلالة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء المفعول. قال البيضاوي : وهو أبلغ. ثم قال تعالى :﴿وما لهم﴾ أي : هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله ﴿من ناصرين﴾ أي : وليس لهم أحد ينصرهم في الدنيا والآخرة عند مجازاتهم على الضلالة لينقذوهم مما يلحقهم عليه من الوبال كما فعل بالمكذبين ممن قبلهم.


الصفحة التالية
Icon