ثم حكى الله عن هؤلاء القوم أنهم ينكرون الحشر والنشر بقوله :﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ أي : غاية اجتهادهم فيها ﴿لا يبعث الله من يموت﴾ وذلك أنهم قالوا : إنّ الإنسان ليس هو إلا هذه البنية المخصوصة فإذا مات وتفرّقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه ؛ لأنّ الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فكذبهم الله تعالى في قولهم بقوله تعالى :﴿بلى﴾ أي : يبعثهم بعد الموت فإنّ لفظة بلى إثبات لما بعد النفي والجواب عن شبهتهم أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأوجده من العدم، ولم يكن شيئاً فالذي أوجده ولم يكن شيئاً قادر على إيجاده بعد إعدامه لأنّ النشأة الثانية أهون من الأولى، وقوله تعالى :﴿وعداً عليه حقاً﴾ مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدّر، أي : وعد ذلك وعداً وحقه حقاً.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧
ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون﴾
ذلك، أي : لا علم لهم يوصلهم لذلك لأنه من عالم الغيب، لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله تعالى ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم الله بروح منه لتقيدهم بما يوصل إلى عقولهم أنها قاصرة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير واسطة منه سبحانه وتعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استبعاداً وهو خصيم مبين.
وقوله تعالى :﴿ليبين لهم الذي يختلفون فيه﴾ يتعلق بما دل عليه بلى، أي : يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو عامّ للمؤمنين والكافرين والذي اختلفوا فيه هو الحق. ﴿وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين﴾ في قولهم :﴿لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء﴾ وقولهم :﴿لا يبعث الله من يموت﴾ وقيل : يجوز أن يتعلق بقوله :﴿ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً﴾ أي : بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب ثم بين سبحانه وتعالى تيسر الإعادة بقوله تعالى :
﴿إنما قولنا﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿لشيء﴾ إبداء وإعادة ﴿إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ أي : يتسبب عن ذلك القول أنه يكون. تنبيه : قوله تعالى :﴿قولنا﴾ مبتدأ و﴿أن نقول﴾ خبره. فيكون وكن من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، ، أي : إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له : أحدث فيحدث عقب ذلك من غير توقف. فإن قيل : قوله تعالى :﴿كن﴾ إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال وإن كان خطاباً
٢٥٩
مع الموجود فكان أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال ؟
أجيب : بأنّ هذا تمثيل لنفي الكلام والغايات وخطاب مع الخلق بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأنّ ما أراد فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد تعالى خلق الدنيا والآخرة بما فيها من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن خاطب تعالى العباد بما يعقلون، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله ﷺ "يقول الله تبارك وتعالى : يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له. أمّا شتمه إياي فيقول : إنّ لي ولداً. وأمّا تكذيبه فيقول : ليس يعيدني كما بدأني". حديث وفي رواية :"كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٍ". وقرأ ابن عامر والكسائي بفتح النون من يكون عطفاً على يقول أو جواباً للأمر والباقون بالرفع. ولما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهالة والجهل والضلال، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وإنزال العقوبة بهم، وحينئذٍ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا من تلك الديار والمساكن فبيّن تعالى حكم تلك الهجرة، وما لهؤلاء المهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧


الصفحة التالية
Icon