والذين هاجروا في الله} أي : في حقه ولوجهه لإقامة دينه ﴿من بعد ما ظلموا﴾ وهم رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله، منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، فجمع لله تعالى بين الهجرتين، ومنهم من هاجر إلى المدينة، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله ﷺ وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل أخذهم المشركون بمكة يعذبونهم ليرجعوا عن الإسلام إلى الكفر، فأمّا بلال فكان أصحابه يخرجونه إلى بطحاء مكة في شدّة الحر ويشدّونه ويجعلون على صدره الحجارة وهو يقول : أحد أحد فاشتراه منهم أبو بكر رضي الله عنه وأعتقه واشترى معه ستة نفر أخر وأمّا صهيب فقال : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر قال له : ربح البيع يا صهيب، وقال عمر له : نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله نارا لأطاعه. ﴿لنبوئنهم﴾ أي : لننزلنهم ﴿في الدنيا﴾ داراً ﴿حسنة﴾ وهي المدينة وقيل : لنحسنن إليهم في الدنيا بأن نفتح لهم مكة ونمكنهم من أهلها الذين ظلموهم وأخرجوهم منها، وقيل : أراد بالحسنة في الدنيا التوفيق والهداية إلى الدين ﴿ولأجر الآخرة﴾ وهي الجنة والنظر إلى وجهه الكريم ﴿أكبر﴾ أي : أعظم ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أي : الكفار والمتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم. وقيل :
٢٦٠
إنه راجع إلى المهاجرين، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبروا. وروي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله به في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل. ثم يقرأ هذه الآية.
وقوله تعالى :﴿الذين صبروا﴾ أي : على الشدائد وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله محله رفع على تقديرهم أو نصب على المدح، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً أو بدلاً أو بياناً فمحله محله ﴿وعلى ربهم يتوكلون﴾ أي : منقطعين إليه مفوّضين الأمر كله إليه. تنبيه : ذكر الله تعالى في هذه الآية الصبر والتوكل وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه، وأمّا الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات واحتمال الأذى من الخلق. وأمّا التوكل فهو الانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق كما مرّت الإشارة إليه فالأوّل هو مبدأ السلوك والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه. ونزل لما أنكر مشركو مكة نبوّة محمد ﷺ وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون ورسوله بشراً فهلا بعث ملكاً إلينا.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧
وما أرسلنا من قبلك﴾ يا محمد إلى الأمم من طوائف البشر ﴿إلا رجالاً﴾ لا ملائكة بل آدميين هم في غاية الاقتدار على الصبر والتوكل الذي هو محط الرحال. ﴿نوحي إليهم﴾ بواسطة الملائكة فعادة الله جارية مستمرّة من أوّل مبتدأ الخلق إلى الآن لم يبعث رسولاً إلا من البشر. ﴿فاسألوا أهل الذكر﴾ أي : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وإنما أمرهم الله تعالى بسؤالهم لأنّ كفار مكة كانوا يعتقدون أنّ أهل الكتاب أهل علم وقد أرسل إليهم رسلاً مثل موسى وعيسى عليهما السلام من البشر وكانوا بشراً مثلهم فإذا سألوهم فلا بدّ أن يخبروهم أنّ الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشراً فإذا أخبروهم بذلك فربما زالت هذه الشبهة وقال ابن عباس : يريد أهل التوراة والدليل عليه قوله تعالى :﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر﴾ (الأنبياء، ١٠٥)
يعني التوراة، والذكر هو التوراة. وقال الزجاج : معناه أسألوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. ولما كان عندهم أحسن من ذلك سماع أخبار الأمم قبلهم أشار إليه بقوله تعالى :﴿إن كنتم﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿لا تعلمون﴾ ذلك فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقه أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد ﷺ وقوله تعالى :﴿بالبينات﴾ متعلق بمحذوف، أي : أرسلنا هم بالحجج الواضحة وقيل : التقدير إن كنتم لا تعلمون بالبينات ﴿والزبر﴾ أي : الكتب فأسألوا أهل الذكر. وقيل : إنه متعلق بمحذوف لسؤال مقدّر كأنه قيل : بم أرسلوا ؟
فقيل : أرسلو بالبينات والزبر.