وقوله تعالى :﴿وأنزلنا إليك الذكر﴾ خطاب للنبيّ ﷺ والذكر هو القرآن وإنما سمي ذكراً لأنه موعظة وتذكير ﴿لتبين للناس﴾ كافة، أي : أعطاك الله تعالى من الفهم الذي فقت فيه جميع الخلق واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها، وقد أوصلك الله تعالى فيه إلى رتبة لم يصل إليها أحد ﴿ما نزل﴾ أي : ما وقع تنزيله ﴿إليهم﴾ من هذا الشرع المؤدّي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل وشرح ما أشكل من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد ومن البعث وغيره فإنّ القرآن فيه محكم وفيه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبيناً والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من السنة. ﴿ولعلهم يتفكرون﴾ فيما أنزل إليهم إذا نظروا أساليبه الفائقة ومعانيه العالية الرائقة فيعتبرون. فإن قيل : إنّ هذه الآية تدل على أنّ المبين لكل التكاليف والأحكام هو النبيّ ﷺ فالقياس ليس بحجة ؟
٢٦١
أجيب : بأنه ﷺ لما بين أنّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٥٧
وقوله تعالى :﴿أفأمن الذين مكروا السيئات﴾ فيه إضمار تقديره المكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا بالنبيّ ﷺ وأصحابه وبالقرآن في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أربعة أمور الأوّل قوله تعالى :﴿أن يخسف الله بهم الأرض﴾ كما خسف بقارون وأصحابه فإذا هم في بطنها لا يقدرون على نوع تقلب بمتابعة ولا غيرها. الثاني قوله تعالى :﴿أو يأتيهم العذاب﴾ على غير تلك الحال ﴿من حيث لا يشعرون﴾ به فيأتيهم بغتة فيهلكهم كما فعل بقوم لوط عليه السلام. الثالث : قوله تعالى :﴿أو يأخذهم﴾ أي : الله بعذابه ﴿في﴾ حالة ﴿تقلبهم﴾ ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة وفي تفسير هذا التقلب وجوه أوّلها : أنه تعالى يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر. ﴿فما هم بمعجزين﴾ أي : بفائتين العذاب بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله تعالى حيث كانوا. ثانيها : أنه تعالى يأخذهم بالليل والنهار وفي حال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم. وثالثها : أنّ الله تعالى يأخذهم في حال ما يتقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى :﴿وقلبوا لك الأمور﴾ (التوبة، ٤٨)
فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
الأمر الرابع : قوله تعالى :
﴿أو يأخذهم على تخوّف﴾ وفي تفسير التخوّف قولان ؛ الأوّل : التخوّف تفعل من الخوف يقال : خفت الشيء وتخوّفته، والمعنى : أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أوّلاً بل يخيفهم أوّلاً ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك قرية فتخاف التي تليها فيأتيهم العذاب. والثاني : التخوّف بمعنى التنقص، أي : أنه تعالى ينقص شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوّفه إذا تنقصه. وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر : ما تقولون في هذه الآية ؟
فسكتوا. فقال شيخ من هذيل : هذه لغتنا التخوّف التنقص. فقال عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟
قال : نعم، قال شاعرنا أبو كبير :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٢
تخوّف، أي : تنقص ـ الرحل، أي : رحل ناقته ـ منها تامكاً، أي : سناماً ـ قردا، أي : متراكماً أو مرتفعاً وهو بسكون الراء ـ كما تخوّف عود النبعة السفن
والنبعة بالضم واحدة النبع وهو شجر يتخذ منه السفن والسفن بفتح السين والفاء ما ينحت به الشيء وهو فاعل تخوّف ومفعوله عود. فقال عمر : عليكم بديوانكم. قالوا : وما ديواننا ؟
قال :
٢٦٢
شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ومعنى البيت أنّ رحل ناقته ينقص سنامها المتراكم أو المرتفع كما ينقص السفن عود النبعة. ﴿فإنّ ربكم﴾ أي : المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد وقوله تعالى :﴿لرؤوف﴾ قرأه أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ ومعناه بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة وكذا من قاطعه أتم مقاطعة وإليه أشار بقوله تعالى :﴿رحيم﴾ أي : حيث لم يعاجلهم بالعذاب. ولما خوّف سبحانه وتعالى المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أنه مع كمال هذه القدرة الباهرة والقوّة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأجسام الأربعة بقوله تعالى :