يتوارى} أي : يستحي ﴿من القوم﴾ أي : من الرجال الذين هو فيهم ﴿من سوء ما بشر به﴾ خوفاً من التعيير وذلك أنّ العرب كانوا في الجاهلية إذا قرب ولادة زوجة أحدهم توارى عن القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن ولد له ذكر ابتهج وسرّ بذلك وظهر، وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً متردّداً ماذا يفعل بذلك الولد ﴿أيمسكه﴾ أي : يتركه بغير قتل ﴿على هون﴾ هوان وذل ﴿أم يدسه في التراب﴾ وذكر الضمير في يمسكه ويدسه نظراً للفظ الولد أو لكون الأنثى ولداً كما علم مما مرّ. قال ابن ميلق : قال المفسرون : كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفرة وجلست على شفيرها فإن وضعت ذكراً أظهرته وظهر السرور على أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمرها بإلقائها في الحفرة وردّت التراب عليها وهي حية لتموت انتهى. وعن قيس بن عاصم أنه قال : يا رسول الله، إني واريت ثمان بنات في الجاهلية. فقال له ﷺ "أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. فقال : يا نبيّ الله إني ذو إبل. قال : إهد عن كل واحدة منهن هدياً". وروي أنّ رجلاً قال : يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام مذ قد أسلمت، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها فلما انتهيت إلى واد فيه بئر بعيدة القعر ألقيتها فيها فقالت : يا أبت قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال ﷺ "ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار"، وكانوا في الجاهلية مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية خوفاً من أن يطمع فيهنّ غير الأكفاء وتارة خوفاً من الفقر وكثرة العيال ولزوم النفقة. وكان الذي منهم يريد أن يحيي ابنته تركها حتى تكبر ثم يلبسها جبة من صوف أو شعر ويجعلها ترعى الإبل والغنم في البادية. قال الله تعالى :﴿ألا ساء﴾ أي : بئس ﴿ما يحكمون﴾ حكمهم هذا وذلك لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأوّلها : أنه يسود وجهه، وثانيها : أنه يختفي من القوم من شدّة نفرته عن البنت. وثالثها : أنّ الولد محبوب بحسب الطبيعة ثم إنه بسبب نفرته عنها يقدم على قتلها وذلك يدل على أنّ النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغاً لا يزاد عليه فكيف يليق بالعاقل أن يثبت ذلك لإله
٢٦٨
عالم مقدس عال عن مشابهة جميع المخلوقات، ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى﴾ (النجم : ٢١، ٢٢)
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٥
ثم قال تعالى :﴿للذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ وهم الكفار ﴿مثل السوء﴾ أي : الصفة السوء بمعنى القبيحة وهي قتلهم البنات مع احتياجهم إليهنّ للنكاح ﴿ولله المثل الأعلى﴾ أي : الصفة العليا وهي أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس : مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن قيل : كيف جاء لله المثل الأعلى مع قوله تعالى :﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ (النحل، ٧٤)
أجيب : بأنّ المثل الذي يضربه الله تعالى حق وصدق والذي يذكره غيره باطل. ﴿وهو العزيز﴾ الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له. ﴿الحكيم﴾ الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله. ولما حكى الله تعالى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم بين أنه تعالى يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل والرحمة والكرم بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٦٥
﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم﴾ أي : بسبب كفرهم ومعاصيهم ﴿ما ترك عليها﴾ أي : على الأرض وإنما أضمر ذكرها من غير ذكر لدلالة الناس والدابة عليها. ﴿من دابة﴾ أي : أنّ الله تعالى لو آخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. فإن قيل : اسم الناس جنس يشمل الكل فيدخل في ذلك الأنبياء فيدل على عدم عصمتهم ؟
أجيب : بأنّ ذلك عام مخصوص بقوله تعالى :﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله﴾ (فاطر، ٣٢)
فالمذكور في هذه الآية، إما كل العصاة المستحقين العقاب أو الذين تقدّم ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات، أو جميع الكفار بدليل قوله تعالى :﴿إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا﴾ (الأنفال، ٥٥)


الصفحة التالية
Icon