والله} أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿خلقكم﴾ أي : أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً. ﴿ثم يتوفاكم﴾ أي : عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان فلا يقدر الصغير أن يؤخر ولا الكبير على أن يقدّم فمنكم من يموت على حال قوّته. ﴿ومنكم من يرد إلى أرذل العمر﴾ أي : أخسه من الهرم والخرف. قال بعض العلماء : عمر الإنسان له أربع مراتب سنّ الطفولية والنمو وهو أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سنّ الشباب، وبلوغ الأشدّ ثم المرتبة الثانية سنّ الوقوف وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة وهو غاية القوّة وكمال العقل والمرتبة الثالثة سنّ الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر، ثم المرتبة الرابعة سنّ الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر خمسة وستون سنة يتبين النقص ويكون الهرم والخرف.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أرذل العمر خمسة وسبعون سنة وقيل ثمانون سنة. وقال قتادة : تسعون سنة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله ﷺ يقول :"اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات". وفي رواية عنه كان يقول :"اللهمّ إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات". ﴿لكيلا يعلم بعد علم شيئاً﴾ أي : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة والعقل وسوء الفهم.
٢٧٦
تنبيه : هل ذلك عام في المسلم والكافر أو مختص بالكافر فيه قولان : أحدهما : أنه عامّ، والقول الثاني : أنه مختص إذ المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله تعالى، ولا يقال في حقه : إنه ردّ إلى أرذل العمر. قال الرازي : والدليل عليه قوله تعالى :﴿ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ (التين : ٥، ٦)
فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين. وقال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة. وقال في قوله تعالى :﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ : هم الذين قرؤوا القرآن. وقال ابن عباس : قوله :﴿ثم رددناه أسفل سافلين﴾ يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال :﴿إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وهذا يؤيد ما مرّ. ﴿إن الله عليم﴾ بمقادير أعمارهم ﴿قدير﴾ يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ. ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال :
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٧٣
والله﴾
أي : الذي له الأمر كله ﴿فضل بعضكم﴾ أيها الناس ﴿على بعض في الرزق﴾ فمنكم غني، ومنكم فقير، ومنكم مالك، ومنكم مملوك، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له بسهولة ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيباً وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيباً علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى :﴿أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا﴾ (الزخرف، ٣٢)
فاتقوا الله وأجملوا في طلب الرزق وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار وأنشد سفيان بن عيينة يقول :
*كم من قويّ قويّ في تقلبه ** مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
*ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ** كأنه من خليج البحر يغترف
وحكي أنّ سليمان المهلبي أرسل إلى الخليل بن أحمد بمئة ألف درهم فردّها الخليل وكتب إليه هذه الأبيات :
*أبلغ سليمان أني عنه في سعة
** وفي غنى غير أني لست ذا مال
*شحي بنفسي أني لا أرى أحداً
** يموت جوعاً ولا يبقى على حال
*فالعجز عن قدرها العجز ينقصه
** ولا يزيدك فيه حول محتال
*والفقر في النفس لا في المال تعرفه
** ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وقال الشافعي رحمه الله تعالى :
٢٧٧
*ومن الدليل على القضاء وكونه
** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق


الصفحة التالية
Icon