ولما أمر تعالى بالمكارم نهى عن المساوئ بقوله تعالى :﴿وينهى عن الفحشاء﴾ قال ابن عباس : ، أي : الزنا، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها. وقال غيره : الفحشاء ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة جميعها. ﴿والمنكر﴾ قال ابن عباس : يعني الشرك والكفر. وقال غيره : المنكر ما لا يعرف في شريعة أو سنة. ﴿والبغي﴾ هو الاستيلاء على الناس والتجبر عليهم قيل : إنّ أعجل المعاصي عقاباً البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي. ونص تعالى على البغي مع دخوله في المنكر اهتماماً به، كما بدأ بالفحشاء لذلك. وقال ابن قتيبة في هذه الآية : العدل استواء السرّ والعلانية والإحسان أن تكون سريرته خيراً من علانيته والفحشاء والمنكر والبغي أن تكون علانيته أحسن من سريرته. وقال بعض العلماء : إنّ الله تعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر العدل
٢٨٧
وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء وهو ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن يعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، وذكر في مقابلته المنكر وهو أن ينكر إحسان من أحسن إليه، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم. ولما كان هذا المذكور من أبلغ المواعظ نبه عليه بقوله تعالى :﴿يعظكم﴾ أي : يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة الثلاثة الأول وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ومجانبة الثلاثة الأخيرة وهي الفحشاء والمنكر والبغي. ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي : لكي تتعظوا فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد وفيه ادغام التاء في الأصل في الذال. وروى البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن مسعود أنه قال : أعظم آية في كتاب الله تعالى :﴿الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم﴾ (البقرة، ٢٥٥)
وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل :﴿إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً :﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾ (الطلاق : ٢، ٣)
وأشدّ آية في كتاب الله تعالى :﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم﴾ (الزمر، ٥٣)
الآية. وقال أهل المعاني : لما قال الله تعالى في الآية الأولى :﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾ بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى به أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٦
وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان من أهل الجاهلية يعملون به ويعظونه ويخشونه إلا أمر الله تعالى به وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه. وعن عكرمة أنّ النبيّ ﷺ قرأ على الوليد بن المغيرة ﴿إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ إلى آخر الآية. فقال له : يا ابن أخي أعد عليّ فأعادها عليه ؟
فقال الوليد : والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، ولما تقرّرت هذه الجمل التي جمعت بجمعها المأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت من البلاغة مبلغاً يحصل به غاية السرور. ذكر بعض تلك الأقسام وبدأ بما هو مع جمعه أهمّ وهو الوفاء بالعهد بقوله تعالى :﴿وأوفوا﴾ أي : أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره ﴿بعهد الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل من التوحيد والبيع والإيمان وغيرها من أصول الدين وفروعه ﴿إذا عاهدتم﴾ بتقلبكم له بإذعانكم لامتثاله ﴿ولا تنقضوا الأيمان﴾ واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى :﴿بعد توكيدها﴾ أي : تشديدها فتحنثوا فيها، وفي ذلك دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منه. وقرأ أبو عمرو بادغام الدال في التاء بخلاف عنه. ﴿و﴾ الحال أنكم ﴿قد جعلتم الله﴾ أي : الذي له العظمة كلها ﴿عليكم كفيلاً﴾ أي : شاهداً ورقيباً. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالادغام. وعن جابر رضي الله عنه قال : نزلت هذه الآية في بيعة النبيّ ﷺ كان من أسلم بايع على الإسلام فقال تعالى :﴿وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها﴾ فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. ﴿إنّ الله﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿يعلم ما تفعلون﴾ من وفاء العهد ونقضه.
٢٨٨