ثم ضرب الله تعالى لنقض العهد مثلاً فقال :﴿ولا تكونوا﴾ أي : في نقض العهد ﴿كالتي نقضت غزلها﴾ أي : ما غزلته فهو مصدر بمعنى المفعول ﴿من بعد قوّة﴾ أي : إبرام وإحكام، وقوله تعالى :﴿أنكاثاً﴾ جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل والحبل. قال مقاتل : هذه إمرأة من قريش يقال لها : رائطة، وقيل : ريطة وتلقب بجعواء وكان خرقاء حمقاء لها وسوسة اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن وكان هذا دأبها. وقال السدّي : كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة تغزل فإذا برمت غزلها نقضته. وقال مجاهد : نقضت حبلها بعد إبرامها إياه. وقال قتادة : لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم ما أحمق هذه، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده. وقال في قوله تعالى :﴿تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم﴾ خيانة وغدراً انتهى. والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل : الدخل والدغل أن يظهر الرجل الوفاء بالعهد ويبطن نقضه وإنما كانوا يفعلون ذلك ﴿أن﴾ أي : بسبب أن ﴿تكون﴾ أو مخافة أن تكون، وتكون يجوز أن تكون تامّة فتكون ﴿أمّة﴾ أي : جماعة فاعلها وأن تكون ناقصة فتكون أمّة اسمها و﴿هي﴾ مبتدأ و﴿أربى﴾ أي : أكثر ﴿من أمّة﴾ خبره، والجملة في محل نصب على الحال على الوجه الأوّل وفي موضع الخبر على الثاني، وأربى مأخوذ من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوّة وفي الشرف. قال مجاهد : وكانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأوّلين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك ﴿إنما يبلوكم الله﴾ الذي له الملك كله، أي : يختبركم ﴿به﴾ أي : يعاملكم معاملة المختبر ليظهر للناس تمسككم بالوفاء وانخلاعكم عنه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين أو غيرهم مع قدرته سبحانه وتعالى على ما يريد فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القويّ ويقلل الكثير ويكثر القليل. ﴿وليبينن لكم﴾ أي : إذا تجلى لفصل القضاء ﴿يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون﴾ أي : إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب، فاحذروا يوم العرض على مالك السموات والأرض، وأنّ من نوقش الحساب يهلك.
﴿
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٦
ولو شاء الله﴾ أي : الملك الأعلى الذي لا أثر لأحد معه أن يجعلكم أمّة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه ﴿لجعلكم أمّة واحدة﴾ أي : متفقة على أمر واحد وهو دين الإسلام ﴿ولكن﴾ لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم فهو تعالى :﴿يضلّ من يشاء﴾ عدلاً منه تعالى لأنه تامّ الملك، ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات ﴿ويهدي﴾ بفضله ﴿من يشاء﴾ ولو كان على أخس الحالات والأحوال فبذلك تكونون مختلفين لا يسئل عما يفعل سبحانه وتعالى ﴿ولتسئلنّ عما كنتم تعملون﴾ في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعدله تعالى. ولما حذر سبحانه وتعالى عن نقض العهد والأيمان مطلقاً قال تعالى :
﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً﴾ أي : فساداً ومكراً وخديعة ﴿بينكم﴾ وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان وإلا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون : المراد نهي الذين بايعوا النبيّ ﷺ عن نقض العهد لأنّ قوله تعالى :﴿فتزلَّ﴾ أي : فيكون ذلك سبباً لأن تزل ﴿قدم﴾ هي في غاية العظمة ﴿بعد ثبوتها﴾ أي : عن مركزها التي كانت به من دين أو دنيا فلا يصير لها قرار
٢٨٩
فتسقط عن مرتبتها لا يليق بنقض عهد قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله ﷺ على الإيمان به وبشرائعه. تنبيه : فتزل منصوب بإضمار أن على جواب النهي وزلل القدم مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية أو سقط في ورطة بعد سلامة أو محنة بعد نعمة ﴿وتذوقوا السوء﴾ أي : العذاب في الدنيا ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿صددتم﴾ أي : أنفسكم ومنعتم بأيمانكم التي قد أردتم بها الإفساد وخفاء الحق. ﴿عن سبيل الله﴾ أي : دينه وذلك أنّ من نقض العهد سهل على غيره طرق نقض العهد فيستن به ﴿ولكم﴾ مع ذلك ﴿عذاب عظيم﴾ أي : ثابت غير منفك إذا متم على ذلك ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التحذير بقوله تعالى :
﴿ولا تشتروا﴾ أي : ولا تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر أن تأخذوا وتستبدلوا. ﴿بعهد الله﴾ الذي له الكمال كله ﴿ثمناً قليلاً﴾ أي : من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً ثم علل قلته بقوله تعالى :﴿إنما عند الله﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين ﴿هو خير لكم﴾ ولا يعدل عن الخير إلى غيره إلا لجوج ناقص العقل، ثم شرط علم خيريته لكونهم من ذوي العلم بقوله تعالى :﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي : إن كنتم من أهل العلم والتمييز فتعلمون فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك بقوله تعالى :