جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٦
ما عندكم} أي : من متاع الدنيا ولذاتها ﴿ينفد﴾ أي : يفنى فصاحبه منغص العيش أشدّ ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه ﴿وما عند الله﴾ أي : الذي له الأمر كله من ثواب الآخرة ونعيم الجنة ﴿باق﴾ أي : دائم. روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ قال :"من أحب دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى". وقرأ ابن كثير باقي في الوقف بالياء، والباقون بغير ياء. وأمّا في الوصل فالجميع بالتنوين. ﴿وليجزينّ الذين صبروا﴾ على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي في السرّاء والضرّاء. ﴿أجرهم﴾ أي : ثواب صبرهم ﴿بأحسن ما كانوا يعملون﴾ أي : بجزاء أحسن من أعمالهم أو يجزيهم على أحسن أعمالهم وذلك لأنّ المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شكّ أنّ الواجبات والمندوبات مما يثاب على فعلها لا على فعل المباحات.
وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون قبل الجيم، أي : ولنجزين نحن والباقون بالياء، أي : وليجزين الله. ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في الإيمان بكل ما كان من شرائع الإسلام بقوله تعالى :
﴿من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن﴾ إذ لا اعتداد بأعمال الكفار في استحقاق الثواب وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب. فإن قيل : من عمل صالحاً يفيد العموم فما فائدة من ذكر أو أنثى ؟
أجيب : بأنه ذكر دفعاً للتخصيص بأحد الفريقين. واختلف في قوله تعالى :﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ فقال سعيد بن جبير وعطاء : هي الررزق الحلال. وقال مقاتل : هي العيش في الطاعة. وقال الحسن : هي القناعة لأنّ عيش المؤمن في الدنيا وإن كان فقيراً أطيب من عيش الكافر وإن كان
٢٩٠
غنياً، لأنّ المؤمن لما علم أنّ رزقه من عند الله تعالى وذلك بتقديره وتدبيره تعالى. وعرف أنّ الله تعالى محسن كريم حكيم يضع الأشياء في محلها فكان المؤمن راضياً بقضاء الله وبما قدّره له ورزقه إياه، وعرف أنّ مصلحته في ذلك القدر الذي رزقه فاستراحت نفسه من الكدر والحرص فطاب عيشه بذلك، وأمّا الكافر والجاهل بهذه الأصول فدائم الحرص على طلب الرزق فيكون أبداً في حزن وتعب وعناء وحرص في الدنيا ولا يناله من الرزق إلا ما قدّر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره. وقال السدّي : الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأنّ المؤمن يستريح بالموت من كدّ الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة : هي الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة. فأثبت بهذا أنّ الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولا مانع من أنّ المؤمن الكامل يحصل جميع ذلك ثم إنّ الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى :﴿ولنجزينهم أجرهم﴾ أي : في الدنيا والآخرة ﴿بأحسن ما كانوا يعملون﴾ أي : من الطاعة وقد سبق تفسيره. ولما قال تعالى :﴿ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ أرشد به إلى العمل الذي به تخلص أعماله من الوسواس بقوله تعالى :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٨٦
﴿فإذا قرأت القرآن﴾ أي : أردت قراءته ﴿فاستعذ﴾ أي : إن شئت جهراً وإن شئت سرًّا. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : والإسرار أولى في الصلاة. وفي قول يجهر كما يفعل خارج الصلاة. ﴿بالله﴾ أي : سل الذي له الكمال كله أن يعيذك ﴿من الشيطان﴾ أي : المحترق باللعنة ﴿الرجيم﴾ أي : المطرود عن الرحمة من أن يصدّك بوساوسه عن اتباعه ويدخل في ذلك جميع المردة من الشياطين لأنّ لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله تعالى على ذلك. وقيل : المراد إبليس خاصة والاستعاذة بالله تعالى هي الاعتصام به، والخطاب للنبيّ ﷺ ويدخل فيه غيره من أمّته وظاهر الآية وجوب الاستعاذة، وإليه ذهب عطاء سواء كانت القراءة في الصلاة أم في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أنها سنة في الصلاة وغيرها والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة منها القراءة بدون ذكر تعوّذ كحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد بن العلاء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ ﷺ قال :"ما منعك أن تجيبني ؟
قال : كنت أصلي. قال ألم يقل الله :﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم﴾ (الأنفال، ٢٤)


الصفحة التالية
Icon